بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة العلوم الشرعية
فص الخواتم فيما قيل في الولائم
● [ الولائم أثنتا عشرة ] ●
الحادية عشرة : وليمة القِرى
وهي الإطعام للضيف
● ما يقال عند الطعام
روينا في عمل اليوم والليلة لأبن السني، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في الطعام إذا قرب إليه: " اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وقنا عذاب النار، بسم الله ".
● الإذن بالطعام
ويستحب أن يقول صاحب الطعام لضيفه عند تقديم الطعام: بسم الله، أو كلوا، ونحو ذلك من العبارات المصرحة بالإذن في الشروع في الأكل، ولا يجب هذا القول، بل يكفي تقديم الطعام إليهم، ولهم الأكل بمجرد ذلك من غير اشتراط لفظ، وقيل لا بد من اللفظ والصواب الأول قال شيخنا المحيوي النعيمي: وله أن يأكل كل ما قدم له بلا إذن من صاحب الطعام لفظاً للعرف والقرينة ولقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول، ذالك أذن فيه " رواه أبو داود. وللقرينة أثر ظاهر في مثل هذا الباب كالتقديم بين يديه، كما يجوز الشرب من الجباب الموضوعة في الطرق. وقال المتولي تقديم الطعام إنما يكفي إذا دعاه إلى بيته، فإن لم يسبق دعوة فلا بد من الإذن لفضاً، إلا إذا جعلنا المعطاة بيعاً، وقرينة التقديم لا تختلف بسبق الدعوة وعدمه. وقال النووي: الصحيح بتقديم الطعام يجوز الأكل بلا لفظ سواء دعاه أم لا. بشرط أن لا يكون ينتظر غيره انتهى. قال أبن العماد: وبشرط أن يكمل وضع السماط وقد نبه عليه صاحب الإشراق. وليس للأرذال أن يأكلوا ما في أيدي الأماثل من الأطعمة النفيسة المخصوصة بهم، لأنه لم يقدم لهم، وبه صرح الشيخ عز الدين بن عبد السلام، إذ لا دلالة على ذلك بلفظ ولا عرف بل العرف زاجر عنه.
● كم يأكل الضيف
ولا يجوز له أكل الجميع، وبه صرح أبن الصباغ ولا بد من النظر في ذلك إلى العرف وحال الضيف.
وصرح الماوردي بتحري الزيادة على الشبع، وأنه لو زاد لم يضمن. وقال أبن عبد السلام: إذا أكل الضيف فوق شبعه لا يحرم عليه إلا من جهة أنه مؤذ لمنهاجه، مضيع لما أفسده من الطعام. نعم إن كان ما يأكله قدر عشرة، وصاحب الطعام لا يشعر بذلك، فلا يجوز له أن يأكل فوق ما يقتضيه العرف، في مقدار الأكل لانتفاء الأدب اللفظي والعرفي، ولأن العادة الفاشية عن الترفه والشره إذا جرى عليها الآدمي استهوته واستعبدته وتملكته، فالحزم قطعها وتركها ومخالفتها. فأما العادة التي إعتادها المسلمون ورأوها حسنة فهي عند الله حسنة، كما قال عبد الله بن مسعود في الحديث الموقوف عليه: " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " كما قال تعالى: (ليَسْتَأْذِنْكُم الَّذِيْنَ مَلَكَتْ) إلى قوله: (ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ، فأمر الله تعالى بالاستئذان في هذه الأوقات التي جرت العادة فيها بالابتذال ووضع الثياب ما يبنى الحكم الشرعي على ما كانوا يعتادونه، واعتبر نومهم الذي يألفونه، وكذلك جرى تقديم الطعام إلى الضيفان على ما جرت بع العادة في إباحة الأكل منه للضيفان، تنزيلاً للدلالة العقلية منزلة الدلالة القولية.
● هل يتصرف الضيف بالطعام
ولا يتصرف الضيف في الطعام بما سوى الأكل المأذون فيه عرفاً، فلا يطعم السائل والهرة ولا يبيعه ولا يهبه ولا يحمل شيئاً معه. وقيل إن قلنا بملكه بالتناول جاز، حكاه في البيان. ويستثنى تلقيم الأضياف بعضهم بعضاً، إلا إذا فاوت بينهم في الإطعام، فليس لمن خص بنوع أن يطعموا منه غيرهم، ويكره للضيف أن يفعل ذلك.
● كيفية الجلوس على الطعام
ويجلس الضيف على ركبتيه، لما في الحديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جثا على ركبتيه للأكل وجلس على رجليه " . وله أن يقعد مستوفزاً لما روي " أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قعد على طعام استوفز على ركبته اليسرى وأقام اليمنى ثم قال: إنما أنا عبد آكل ما يأكل العبد، وأفعل ما يفعل العبد " . رواهما أبو الحسن المقدسي في السابل.
● من أدب الضيف
ومن أدب الضيف أن لا يخرج إلا برضى صاحب المنزل وإذنه، ومن أدب المضيف أن يشيعه عند خروجه إلى باب الدار، فهو سنّة. وينبغي للضيف أن لا يجلس مقابلة حجرة النساء وسترهن، ولا يكثر النظر إلى الموضع الذي يخرج منه الطعام. وإذا حضر المدعوون وتأخر واحد أو اثنان عن الوقت الموعود، فحق الحاضرين في التعجيل أولى من حقهما في التأخير، إلا أن يكون المؤخر فقيراً ينكسر قلبه بذلك فلا بأس به.
● الجنب والمحدث
ويستحب الجنب والمحدث التطهير عند الأكل فإن فقد الماء تيمم.
● ترتيب أصناف الطعام وإرشادات
وينبغي أن تقدم الفاكهة إن كانت، لسرعة انهضامها، ويكره أكل ما لم يطب أكله من الفاكهة، ثم اللحم ثم، الحلاوة، ويستحب أن يكون على المائدة البقل وقد ورد في حديث مرفوع من طريق أبي أمامة: " خضروا موائدكم بالبقل فإنه مطردة للشيطان " . وإذا دخل ضيف البيت فليعرفه رب الدار عند دخوله القبلة وبيت الخلاء وموضع الوضوء، ويستحب أن ينوي بأكله وشربه التقوي على الطاعة، وأن يكون باليمين إلا لعذر. قال الغزالي ويبدأ بالملح ونحوه، قال علي بن أبي طالب رضي الله: " من ابتدأ غداؤه بالملح أذهب الله عنه سبعين نوعاً من البلاء " ويستحب الختم بالملح أيضاً.
● المائدة والخوان
ولا يكره الأكل على المائدة وإن كانت بدعة فلم يكن عليه الصلاة والسلام يأكل إلا على سفرة. قال الحريري وأبن الجوزي: والعامة تقول المائدة للخوان، ولا يكون مائدة إلا إذا كان عليه طعام وإلا فهو خوان. انتهى.
● وضعية الآكل والشارب
ويكره الأكل والشرب مضطجعاً، قال الغزالي: إلا ما ينتقل به من الحبوب لأنه قد روي عن علي كرم الله وجهه أنه أكل كعكاً على ترس وهو مضطجع ويقال: منبطحاً على ظهره. والشرب منبطحاً مكروه للمعدة. قال الرافعي: ولا يكره الشرب قائماً، وحملوا النهي الوارد على حالة السير قال النووي وقد تأوله آخرون على خلاف. هذا والمختار أن الشرب قائماً بلا عذر خلاف الأولى للأحاديث الصحيحة بالنهي عنه في صحيح مسلم، وكذا في البخاري. وأما الحديثان عن علي وأبن عباس فمحمولان على بيان الجواز جمعاً بين الأحاديث، انتهى. قال الأذرعي: وهذا ما يتعين المصير إليه. وقال أبن العماد في الصحيح: النهي عن الشرب قائماً، وأمر من نسي فشرب قائماً بالاستقاء. واختلفوا في النهي فقيل: هو عام في كل أكل. وقال أبن قتيبة وغيره: هو مخصوص بحالة السير لأجل العجلة، وعدم التأني فيه. أما إذا شرب يدل على أن فيه ضرب من جهة الطب وحينئذ فالكراهة إرشادية والنهي نهي إرشاد، أي راجعاً إلى مصلحة دنيوية لا دينية. انتهى. وقال العيني في شرح الكنز: يكره الشرب قائماً إلا في موضعين أحدهما عقيب الوضوء، وثانيهما عند الشرب من بئر زمزم. انتهى. وأما الأكل قائماً فقال أنس رضي الله عنه: هو أبشع من الشرب قائماً وكرهه. قال النووي وكذا الغزالي: والمختار الإباحة لقول أبن عمر رضي الله عنهما: " كنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نأكل ونمشي ونشرب ونحن قيام " . قال الغزالي: والجمع بينهما أن الأكل في السوق تواضع وترك تكلف من بعض الناس فهو حسن، وخرق مروءة من بعضهم فهو مكروه، وبهذا فهموا أن الكراهة إرشادية لا دينية في الأكل والشرب انتهى. قال النووي في فتاويه: وأما الأكل قائماً فإن كان لحاجة فجائز وإن كان لغير حاجة فهو خلاف الأفضل ولا يقال إنه مكروه. وثبت في صحيح البخاري من رواية أبن عمر أنهم كانوا يفعلونه، وهذا يقدم على ما في صحيح مسلم عن أنس أنه كرهه. انتهى. ثم قال فيها: وهل يكره الكرع في الماء وهو الشرب بالفم من غير عذر في اليد؟ الجواب لا يكره ويجوز. وفي صحيح البخاري فيه حديث حسن.
كما يجوز أكل اللحم نيئاً.
● آداب عامة على الطعام
وقال الغزالي: ويأكل من استدارة الرغيف إلا إذا قل الخبز فيكسره ولا يقطعه بالسكين، ولا يقطع اللحم. ولا يوضع على الخبز إلا ما يؤكل منه، ولا يمسح يده بالخبز، ويستحب أن يصغر اللقمة ويطيل مضغها، ولا يمد يده إلى أخرى ما لم يبلعها، ولا ينفخ في الطعام الحار، ولا يجمع بين التمر والنوى في طبق، وقد روى أبو بكر الشيرازي في كتاب الألقاب من طريق جعفر وهو الصادق عن أبيه عن علي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تلقى النواة على الطبق الذي يؤكل منه الرطب أو التمر " . وقال أبن العماد ينبغي أن لا يخلط نوى ما أكل بما لم يؤكل، وكذا الرمان وسائر ما له قشر كالقصب ونحوه. انتهى. وقال أبن الملقن: ولا يترك ما أسترذله من الطعام في القصعة، بل يجعله مع التفل لئلا يلتبس على غيره فيأكله. ولا يغمس اللقمة الدسمة في الخل، ولا الخل في الدسمة.
وإن قلل رفيقه الأكل نشطه، ولا يزيد في قوله كل على ثلاث مرات. قال الغزالي: وأما الحلف عليه بالأكل فممنوع. انتهى كلام أبن الملقن. وقال أبن العماد: قال الحسن ين علي بن أبي طالب: " الطعام أهون من أن يحلف عليه " . فينبغي لداعي الضيف أن لا يقسم عليه بالله، بل يتلطف بقوله: " ائته " ، " تخير " ، ونحو ذلك. وإذا رآه مقصراً في الأكل كرر عليه العزيمة ثلاثاً وهذا الذي روي عن الحسن قد روي عن أبن عباس ما يخالفه فإنه قال: " لكل قادم دهشة فابدؤوه بالسلام، ولكل آكل حشمة فابدؤوه باليمين " ذكره أبن السيد في شرح أدب الكاتب انتهى. ولا يقوم حتى ترفع المائدة، ولا يبتدئ بالطعام ومعه من يستحق التقديم إلا أن يكون هو المتبوع.
● الشرب على الطعام
ولا يشرب في أثناء الطعام إلا لضرورة بأن يغص بلقمة فليشربه للحاجة. قال في الإحياء: وإذا صدق عطشه فإنه يستحب الشرب حينئذ من جهة الطب، يقال: أنه دباغ المعدة، وورد النهي عن الشرب في من ثلمة القدح، ويكره الشرب من فم القربة؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فمها لأنه قد يخرج من داخلها ما ينغص الشرب من قشر ونحوه، ولأنه يغير رائحة فمها، ولآنه يملأ البطن ريحاً، كما قاله أبن الجوزي في طبه. وينبغي ألا يشرب الإنسان الماء حتى يتحادر الطعام من البطن الأعلى. ثم أنظر ما يرويك فأشرب ألطفه، فذلك أصلح لبدنك وأقوى لمعدتك وأهضم لطعامك، فإن الأكثارمن الماء البارد يبرد ويرطب ويعف الحرارة الغريزية، والعطش ينحف الجسم ويظلم البصر. وإياك وشرب الماء على الريق عند الانتباه من النوم من الليل وقبل الطعام فإن ذلك يطفئ نار المعدة، ويطفوا على الطعام. ومن شرب الماء بعد البقول فهو على خطر من الحبوب والتواليل. وليحذر الماء البارد عقب الفواكه والحلوى والطعام الحار والحمام والرياضة، وشرب الماء الحار عقيب الأشياء المالحة. ولا ينبغي للعطشان أن يشرب الماء الكثير فأنه يهلكه، ولا الماء الشديد البرودة فإنه يميت الحرارة الطبيعية التي أضعفها العطش، وإنما ينبغي أن يمص القليل منه ويصبر، ثم يمص القليل. ويستحب إدارة المشروب عن يمين المبتدأ بالشراب. قال الدميري ويكون الساقي آخرهم شرباً. انتهى.
وينبغي أن يستعمل الششني أولاً. وقال في المختار للحنفية: ويحرم الأكل فوق الشبع إلا إذا قصد التقوى على صوم الغد أو لئلا يستحيي الضيف. انتهى. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ويحرم عليه لو كان الطعام قليلاً أن يأكل لقماً كباراً مسرعاً في مضغها وابتلاعها حتى يومنا يحرم أصحابه. انتهى.
● غسل اليدين
ولا يكره غسل اليد بالأشنان وإن كان محدثاً. قال الدميري: ولا بالنخالة ونحوها؛ ففي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة أن تجعل في الماء ملحاً ثم يغسل به الدم. انتهى. قال الغزالي: وكيفية أن يغسل الأصابع الثلاث من اليمين أولاً و يضرب بأصابعه على الأشنان اليابس فيمسح به شفتيه. ولا يكره الغسل في الطست، وله أن يتنخم فيه إن كان وحده، وأن يقدم المتبوع، وأن يكون الخادم قادماً. ويصب صاحب المنزل الماء على يدي ضيفه كما فعل الإمام مالك ذلك مع الشافعي في أول نزوله عليه، وقال له: " لا يرعك ما رأيت مني " حتى قيل: إن خدمة المضيف فرض، ولا يبعد أن يكون هذا من كلام مالك.
● حمد الله بعد الطعام
ومن أدب الأكل في آخره وكذا الشرب أن يقول: " الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا " . ثبت ذلك في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله، وقد جاءت في هذا أذكار كثيرة فلتطلب في كتاب الأذكار للنووي وتهذيبه لأبن أرسلان ونحوهما. وقوله ربنا يجوز بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وبالنصب على الاختصاص والنداء، وبالجر على البدلية من قوله الحمد لله. وروينا هذا الحديث في الغيلانيات من حديث أبي هريرة بغير هذا اللفظ وهو: " دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فانطلقنا معه، فلما طعم وغسل يده - أو قال يديه - قال: الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم، من علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن ابلانا، الحمد لله غير مودع ولا مكافأ ولا مكفور ولا مستغنى عنه، الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلال، وبصر من العمى، وفضلني على كثير من خلقه تفضيلا ".
● البسملة أولا
وقال النووي: ومن الآداب أن يبسمل أولاً جهراً، فإن نسي قال إذا تذكر: باسم الله أوله وآخره، وهي مستحبة لكل آكل من صغير وكبير حتى الحائض والنفساء، وينبغي أن يجهر بها جهراً يسمعه رفيقه سماعاً محققاً، ليقتدي به فيها أو لينتبه غيره لها. ويستحب لكل واحد من الجماعة أن يسمي فإن سمى واحد من الجمع أجزأ عن الباقين، نص عليه الشافعي، لأنها سنةٌ على الكفاية. ومن ترك التسمية عامداً أو مكرهاً لعارض آخر ثم تمكن في أثناء أكله سمّى كما لو أنه نسيها. والتسمية في المشروب كالمأكول انتهى. وقال الأذرعي في كتاب وسائل الحاجات للغزالي، وقيل أنه قاله في الإحياء: وإذا بدأت بالأكل فقل في اللقمة الأولى: " بسم الله " ، وفي الثانية: " بسم الله الرحمن " ، وفي الثالثة: " بسم الله الرحمن الرحيم " . ويجهر به ليذكر من بعد. قلت: أما الجهر بالتسمية فحسن، ذكره غيره، وأما بقية كلامه فلا أحسب له أصلاً يرجع إليه أصلاً، وإن الصواب أن يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " في الأولى والله أعلم انتهى. وأستحب العبادي أن يقول: بسم الله الذي لا يضر مع أسمه شيء. فإن الشيطان يأكل ويشرب من طعام الناس ومائهم.
● عودة إلى غسل الأيدي
ثم قال النووي: ومن الآداب أن يغسل يديه قبل الأكل وبعده، لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده " . ومعناه غسل اليدين انتهى. وقال أبن العماد: غسل اليدين قبل الطعام ورد في الحديث أنه ينفي الفقر، وبعد الطعام ينفي اللمم، واللمم الجنون.
ويستحب ترك تنشيفها قبل الطعام، لأنه ربما كان في المنديل وسخ فيعلق باليد. ويستحب تقديم الصبيان على الشيوخ في الغسل قبل الأكل، لأنه ربما فقد الماء، لو قدمنا الشيوخ وأيدي الصبيان أقرب إلى الوسخ بخلاف ما بعد الطعام فإن الشيوخ تقدم كرامة لهم، ذكره النووي في فتاويه انتهى.
● الدعاء للمضيف
وقال أبن الملقن وغيره: ويستحب أن يدعوا لصاحب الطعام إن كان ضيفاً فيقول: أكل طعامكم الأبرار، وأفطر عندكم الصائمون، وصلت عليكم الملائكة انتهى. زاد البلقيني في الدعاء: وذكركم الله فيمن عنده، وأعترضه بعض الحفاظ. ويستحب لمن حضر وهو صائم أن يدعوا لأهل الطعام ثم ينصرف.
● ما يقال بعد الطعام
وقال الغزالي: وإن أكل طعاماً حلالاً قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتنزل البركات، اللهم أطعمنا طيباً واستعملنا صالحاً. وإن كان فيه شبهة قال: الحمد لله على كل حال، اللهم لا تجعله قوة لنا على معصيتك. وإن كان المأكول ليناً قال: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيراً منه.
● من آداب الطعام أيضا
ويكره أن يأكل متكئاً وقد فسر بالتمكين في الجلوس من التربع وشبهه. قال الخطابي: وكل من استوى قاعداً على وطاء فهو متكئ. وأن يأكل مما يلي أكيله ومن وسط القصعة وأعلى الثريد كراهة تنزيه، وقيل تحريم؛ لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك، وخصه بعضهم ما إذا أكل معه غيره، ونص الشافعي في الرسالة وغيرها على تحريم أكله من غير ما يليه، ومن رأس الطعام إذا كان عالماً بالنهي، ولا بأس بذلك في الفواكه.
ويكره أن يعيب الطعام ولا بأس بقوله لا أشتهيه أو ما اعتدته للحديث الصحيح في الضب. ويكرهه أن يقرن بين تمرتين ونحوهما، ولا بأس بذلك في الفواكه. قال الأذرعي: قال في شرح مسلم: وإن كان المأكول أجناساً، فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه، والذي ينبغي تعميم النهى حين يثبت دليل خاص. وأشار في موضع إلى نقل الإجماع على الجواز، وأنه لم يرد فيه حديث. قلت: بل فيه حديث ضعيف في جامع الترمذي. وقوله: ويكره أن يعيب الطعام أطلق، والمراد ما قدم للأكل ونحو ذلك، والكراهة إن كان لغيره للأذى والتخجيل. أما لو كان له فلا، ولا سيما ما ورد خبثه كالثوم والبصل والكراث وفي الحديث: " أن لحم البقر داء " ، نعم الأولى تركه لأنه عليه السلام ما عاب طعاماً قط، إن أعجبه أكله وإلا تركه. وأطلق كراهة القِران في التمر وغيره، ونقل في شرح مسلم عن الظاهرية أن النهي للتحريم، وغيرهم أنه للأدب، والصواب: التفصيل؛ فإن كان الطعام مشتركاً بينهم فالقرآن حرام إلا برضاهم، ويحصل الرضى بتصريحهم به، أو ما يقوم مقام التصريح من قرينة حال أو إدلال عليهم، بحيث يعلم يقيناً أو ظناً منهم أنهم يرضون به، ومثى شك في رضاهم فحرام. قلت: وأكنه يريد بالشك التردد المستوي الطرفين، وفيه نظر، والظاهر أنه متى شك حرم، وإن غلب على ظنه الرضى وإن كان الطعام لغيرهم أو لأحدهم اشترط رضاه وحده، فإن قرن بغير رضاه فهو حرام. ويستحب أن يستأذن الاكلين معه ولا يجب، وإن كان لنفسه وقد ضيفهم به فلا يحرم عليه. ثم إن كان فيه قلة فحسن أن لا يقرن ليساويهم، وإن كان كثيراً بحيث يفضل عنهم فلا بأس بقرانه، لكن الأدب مطلقاً التأدب في الأكل وترك الشره، إلا أن يكون مستعجلاً يريد الإسراع لشغل آخر. وقال الخطابي: إنما كان هذا في زمنهم وحين كان الطعام ضيقاً، فأما اليوم مع أتساع الحال قلا حاجة إلى الإذن وليس كما قال، بل الصواب ما ذكرنا من التفصيل انتهى. وقال أبن العماد: يستحب الأكل مما يلي الآكل إلا في النهار، فإنه يأكل من حيث شاء ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القِران في التمر، أخرجه البخاري ومسلم، وهو أن يأكل في لقمة اثنتين أو أكثر. والحق الطرطوسي الزبيب بالتمر والقياس إلحاق العنب بالتمر. قال الطرطوسي: وقال بعضهم: النهي مخصوص بالشركاء إذا اشتركوا في شراء الثمار والطعام، ويحرم معه لأحدهم أن يأكل أكثر من الآخر، وفي غير الشركاء لا حرج. وهذا حسن ويستثنى من المنع ثلاث صور:
* الأولى: إذا قرن الآكلون.
* الثانية: إذا سامحوه بذلك.
* الثالثة: إذا كان القارن هو مالك التمر فله أن يفعل ما يشاء، وله منعهم من الأكل. انتهى.
ثم قال النووي وإذا أكل جماعة فمن الأدب أن يتحدثوا على طعامهم بلا إثم فيه. ويكره أن يتمخط أو يبزق في حالة الأكل إلا لضرورة. ويكره أن يقرب فمه من القصعة بحيث يرجع من فمه إليها شيء، ويستحب أن يلعق من القصعة لما روى الترمذي وأبن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أكل من قصعة فلحسها استغفرت له القصعة " . وروى البزار أنها تقول: " اللهم أجره من النار كما أجارني من الشيطان " . وكذا يستحب أن يلعق أصابعه قبل أن يمسح يده بالمنديل. وذكر القفال في محاسن الشريعة: أن المراد بالمنديل هنا المعد لإزالة الزهومة يعني الفوطة، لا المنديل المعد للمسح بعد الغسل، كذا قاله أبن حجر. ويكره أن ينفض أصابعه في القصعة، وأن يذكر شيئاً من المستقذرات. وينبغي أن يأكل اللقمة الساقطة ما لم تتنجس ويتعذر تطيرها، للأحاديث الصحيحة في ذلك. والأولى أن لا يأكل الشخص وحده، وأن لا يترفع عن مؤاكلة الغلام والصبيان والزوجة، وأن لا يتميز عن جلسائه بنوع إلا لحاجة كدواء ونحوه. وأن يمد الأكل مع رفقته ما دام يظن لهم حاجة إلى الأكل . وأن يؤثرهم بفاخر الطعام، كقطعة لحم وخبز لين أو طيب. ويستحب الترحيب بالضيف وحمد الله تعالى على حصوله ضيفاً عنده، وسروره وثنائه عليه لجعله أهلاً لتضييفه؛ ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " ويسن أكل القثاء بالرطب لأن النبي صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ، ومن ثم أستدل على جواز الجمع بين طعامين. وينبغي للآكل حالة أن لا يديم النظر إلى جليسه، لأن ذلك يخجله فيترك الطعام قبل الشبع.
وحكى القرطبي في تفسيره أن أعرابياً قال لسليمان بن عبد الملك وقد قال له أزل الشعرة من لقمتك وهو يأكل من طعام عبد الملك شعر:
و للموت خير من يسارة باخل ● يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
● آداب الشرب
ويكره التنفس في الإناء، ونفخ الطعام ليبرد، وإن كان الطعام حاراً فليصبر حتى يبرد. وإذا أتى بكوز ليشرب منه فلينظر إلى طرفه قبل الشرب، فقد يكون فيه شيء يؤذيه. ويستحب تنحية رأسه عن الكوز عند إرادة التنفس، ولا ينفخ في الماء، ولا يتنفس داخل الكوز، وإذا شرب شرب قليلاً مصاً مصاً لقوله صلى الله عليه وسلم : " مصّوا الماء مصّاً ولا تغبوه غباً فإن الكُبَاد من الغبّ " والكُباد بضم الكاف وفتح الباء الموحدة قيل وجع الكبد. على أن بعضهم قال أتفق سبعون حكيماً على أن كثرة النوم من شرب الماء. وقال الدميري والشرب بثلاثة أنفاس يتحصل له فيها عشر حسنات: تسمية الله تعالى في الابتداء، وحمده في الآخر ثلاثاً، وإبانة القدح عن فيه مرتين، فتنفسه مرتين امتثالاً للأمر، وإذا شرب يناوله الأيمن فالأيمن، ويكون الساقي آخرهم شرباً انتهى.
● تصغير اللقمة
وقال النووي في فتاويه: هل صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتصغير اللقمة في الأكل وتدقيق المضغ، أو يستحب ذلك؟ فأجاب: لم يصح في ذلك شيء، وهو مستحب إذا كان فيه رفق بجلسائه، أو قصد بذلك تعليمهم الأدب، أو كان في الطعام قلة، وكان ضيفاً، أو كان شبعان وعرف أنه رفع يده يرفع غيره يده ممن له حاجة في الأكل أو نحو ذلك من المقاصد الصالحة انتهى.
● الأكل بالأصابع
وقال العبادي إذا كان الطعام سمحاً أستحب الأكل بجميع الأصابع، وإن كان جامداً أستحب بثلاثة. قال الشافعي رضي الله عنه: والأكل بإصبع واحدة من المقت، وبإصبعين من الكبر، وبثلاث أصابع من السنة، وبأربع وخمس من الشره. وفي الأوسط للطبراني عن كعب بن عجرة قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث قبل أن يمسحها: الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام " .قال الشيخ سراج الدين بن الملقن في شرح الترمذي: كأن السر فيه أن الوسطى أكثر تلوثاً لأنها أطول، فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنها لطولها أول ما تنزل في الطعام انتهى. وفي مسلم من حديث كعب بن عجرة قال: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها " . قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: فيحتمل هذا الحديث أن يكون أطلق على الأصابع اليد، ويحتمل وهو الأولى أن يكون المراد باليد الكف كلها، فيشمل الحكم من أكل بكفه كلها، أو بأصابعه فقط، أو ببعضها. ويؤخذ منه أن الأكل بثلاث أصابع هو السنة. قال عياض والأكل بأكثر منها من الشره وسوء الأدب كتكبير اللقمة، ولأنه غير مضطر إلى ذلك لجمع الطعام اللقمة وإمساكها من جهاتها الثلاث، فإن أضطر إلى ذلك لخفة الطعام وعدم تلقفه بالثلاث عمد الرابعة أو الخامسة. وقد أخرج سعيد بن منصور من مراسيل أبن شهاب: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل أكل بخمس " فيجمع بينه وبين حديث كعب، باختلاف الحال انتهى.
● من آداب الطعام أيضا
وينبغي للآكل أن يتوسط في أكله، فلا يقصر فيه حتى ينسب إلى التحشم، ولا يتابع فيه حتى ينسب إلى الشره والجوع والبخل، وأن لا يقضم الخبز بفمه ثم يضعه في الطعام، فإنه يورث قنافة، من حيث إنه قد يكون فمه أبخر، ولأن البصاق ينفصل على اللقمة من الفم إلى الطعام. ويسمى هذا النوع في كتاب " معايب الآكل " بالمهندس، من حيث إنه يصلح اللقمة ويهندسها ثم يضعها في الطعام وهو مذموم. وأن يضم شفتيه عند الأكل لمعنيين، أحدهما: أنه يأمن ما يتطاير من البصاق حال المضغ، وقد يقع ذلك في الطعام فيورث القنافة. الثاني: أنه إذا ضم شفتيه لفمه تَرَقّق. وينبغي له عند السعال أن يحول وجهه عن الطعام أو يبعده عنه أو يجعل شيئاً على فيه، لئلا يخرج منه بصاق فيقع في الطعام، وأن لا يطأطئ برأسه على الإناء حالة الأكل، وإذا كان المأكول بطيخاً قد وضح على طبق أو غيره فينبغي له ألا يخلط ما أكله من القشر، بما لم يؤكل، لأنه يورث القنافة وتنفيراً عن أكل الباقي، ولا يرمي القشر، لأن في رميه كلفة في جمعه ليطرح في المزبلة، وربما نالت القشور رأس الجليس فصدمته، أو تقابل منها شيء حالة الرمي، بل يجعله على حدة.
وإن كان الضيف يستحيي من الأكل وحده أستحب لصاحب المنزل أن يأكل معه. وإن كان صائماً وشق عليه الفطر فليدع له من يأكل معه. ويكره الأكل بحضرة من ينظر إلى الطعام وهو يشتهيه، ولو كان قطاً أو كلباً، لأنه يقال إنه ينفصل من العين سموم تركب الطعام لا دواء لها إلا بشيء يطعمه من ذلك الطعام للناظر إليه.
● الأكل في السوق
ويكره الأكل في السوق لقوله عليه السلام: " الأكل في السوق دناءة " . وقيل هو حرام مطلقاً، وقيل أن تحرم شهادة حرم، وإلا فلا؛ لأنه إذا تحمل ثم أكل في السوق أنحط مع السفل ولم تقبل شهادته. ولا بأس بالشرب في السوق لقصر زمنه.
● أدعية لدفع الضرر
وفي الحلية عن كعب الأحبار قال: من خشي أن يتخم من طعام أو شراب فليقرأ: (شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ) الآية، فإنه لم يتخم إن شاء الله تعالى. وفي كتاب الدعاء لأبن أبي الدنيا عن أبن مسعود رضي الله عنه: من قال حين يوضع طعامه: بسم الله خير الأسماء في الأرض وفي السماء، لا يضر مع أسمه داء، أجعل لي فيه بركة وعافية وشفاء، فيضره ذلك الطعام ما كان. وذكر الغزالي في الإحياء فيما يستحب بعد الطعام ويأمن من ضرره، أن يقرأ بعده سورتي قل هو الله أحد، ولإيلاف قريش،و كذا ذكره السهروردي في عوارف المعارف. وقال: ويقول: الحمد لله على كل حال، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتنزل البركات، اللهم أجعله عوناً على طاعتك، ولا تجعله عوناً على معصيتك. فإنه إذا قال ذلك على الطعام أو في أوله أذهب الله عنده الداء المغير لمنهاج القلب، لا سيما إذا قال: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، وما رزقتنا بما نحب فأجعله عوناً لنا على ما تحب، وما زويت عنا مما نحب فأجعله مرغباً لنا فيما تحب انتهى.
● يؤكل الطعام لثلاث
وقال أبن مفلح في طبقات الحنابلة في ترجمة علي بن محمد المصري قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: يؤكل الطعام لثلاث: مع الإخوان بالصدور، ومع الفقراء بالإيثار، ومع أبناء الدنيا بالمروءة. انتهى.
● هل يملك الضيف الطعام
وهل يملك الضيف ما يأكله؟ وجهان: قال القفال من الشافعية: لا يملكه؛ وهو مذهب أبي حنيفة، بل هو إتلاف بإذن المالك، وللمالك أن يرجع ما لم يؤكل. وقال إمام الحرمين: إنه الصحيح. وقال الجمهور: أنه يملك. وصححه الرافعي في كتاب الهبة. قال أبن العماد: وتظهر فائدة الخلاف، فيما لو أكل الضيف تمراً وطرح نواه فنبت، فلمن يكون ثمره؟ وفيما لو رجع فيه صاحب الطعام قبل أن يلتقم. انتهى. قال أبن قاضي شهبة: وحيث قلنا بأنه يملك، فالمراد به أنه ملك أن ينتفع بنفسه كالعارية، لا أنه ملك العين كما توهمه بعضهم انتهى. وقد قال الرافعي وتبعه النووي في الأيمان: لو حلف لا يهب أو لا يتصدق، لا يحنث بالضيافة لأنه لا تمليك فيها انتهى. وقال في المعلمات: قيل يملكه بالوضع بين يديه، وقيل بالأخذ باليد، وقيل بالوضع في الفم، وقيل بالازدراد. يتعين حصول الملك قبله، رجح منها الأول وفيه نظر؛ فإن الأذرعي قال: أنه أضعف الأوجه، بل هو غلط. ولم لأره في طريقة العراق، ولا يجوز حمله على إطلاقه في كل ما يوضع قل أو جل انتهى. وقال في المهمات: والراجح من الوجوه المقدمة على الملك أن يحصل بالوضع في الفم انتهى.
وقال صاحب الذخائر: وفائدة الخلاف في ذلك إن قلنا يملك بالوضع بين يديه أو بالأخذ كان للمقدم إليهم التصرف فيه فإن كان المقدم إليه واحداً كان له أن يطعم من شاء على ما جرت بع عادة الصوفية في تناولهم اللقم لمن يقف على رؤوسهم ويخدمهم وأختاره أبو حامد الاسفرائيني والقاضي أبو الطيب، وعلى هذا لهم بيعه لأنه ملكهم. وحكى الشيخ أبو حامد عن جمهور الأصحاب، أنه ليس له أن يعطيه لغيره، كما لا يعير المستعير، وإن كانوا جماعة. وقلنا يملكون بالتقديم، كانوا في حكم المسافرين يخلطون الأزواد ثم يأكلون، لا يجوز لواحد منهم أن يتناول أحداً شيئاً إلا برضى الباقين، وإن قلنا يملك بالوضع في الفم أو بالازدراد فليس له أن يعطيه لغيره قبل ذلك انتهى. ووجد عند البرماوي من الشافعية لنا: ضيافة لا يملك فيها الطعام على الأصح، وذلك في لحم الأضحية إذا قدم للأضياف، وضيافة تملك بالتقديم قطعاً، وهي ضيافة أهل الذمة المشروطة عليهم، فليملكها المقدمة إليه بالتصرف كما ذكره الرافعي انتهى.
ونقل النووي في شرح مسلم الإجماع على امتناع أخذ الدراهم عند العلم بالرضا، ثم قال: وفيه نظر، وينبغي جواز الأخذ عند العلم كما يجوز أكل الطعام انتهى. وقال أبن العماد: ولا شك أن غباحة مال الغير على خلاف الأصل، والآية إنما وردت في الأكل خاصة، فلا قياس عليها غيرها، لن شرط القياس أن يكون المقيس شاذاً عن الأصول.
وينبغي التنبيه هاهنا لأمر وهو أن أخذ الدراهم له صورتان، الأولى: أن لا يرضى صاحبها بأخذها مجاناً، ويرضى بأخذها وبرد بدلها على نية القرض مقاوضة، وشرطها أن تكون بعقد، والعقد لا يكون من شخص واحد والمعاوضة الفاسدة يكون المأخوذ بها حراماً، فتحريم الأخذ لعدم المعاوضة لا لعدم الرضا، كما تقول: البيع الفاسد يجوز التصرف في المأخوذ به وإن كان الرضا موجوداً. والصورة الثانية: أن يقوم عنده دليل على الرضا بالأخذ من غير بدل، فهذا موضع نظر، فقد يقال بجوازه كالطعام، وقد يقال بامتناعه؛ لأن الغالب عدم الرضا بأخذ الأموال، ولهذا تصان ويختم عليها، بخلاف الطعام، ولا نظر إلى شذوذ بعض الأحوال؛ لأن أحكام الشرع إنما تبنى على الغالب، فظهر أن القياس الذي قاله النووي قياس خفي، لا يصح الإلحاق به لقيام الفارق الجلي انتهى. وإنما للضيف أخذ ما يعلم رضاه به لحصول الرضا، لأن مدار الضيافة على طيب النفس، فإذا تحقق ولو بالقرينة رتب عليه مقتضاه، ويختلف ذلك بقدر المأخوذ وجنسه وبحال المضيف وبالدعوة.
● فرع : التطفل والطفيليون
يحرم التطفّلُ، وهو إتيان الإنسان إلى طعام لم يدع إليه. قال في الاستقصاء: ومن لم يدع إلى طعام فلا يجوز له أن يدخل، فإن دخل وأكل من غير إذن كان ما أكله حراماً عليه، لما روي في حديث أبن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من دخل من غير دعوة، فقد دخل سارقاً وخرج مغيراً ويل أمه أن يستحل صاحبه " انتهى رواه أبو داود. وروى البيهقي نحوه، وقال أبن العماد: الضيفن الرجل الذي لا يعزم عليه، ولكن إذا رأى الضيوف تتبعهم، وأستحيي صاحب المنزل أن يمنعه من الدخول. وجميع ما يأكله الضيفن حرام، والضيفن هو الطفيلي انتهى.
● طيفن بن دلال
وقال أبن حجر في شرح البخاري: وقد جمع الخطيب البغدادي في أخبار الطفيليين جزءاً فيه عدة فوائد منها:
أن الطفيلي منسوب إلى رجل من أهل الكوفة يقال له " طُفَيْل بن دلال " من بني عبد الله بن غطفان، كثر منه الإتيان إلى الولائم بغير دعوة، فسمي طفيل الأعراس. وكان أول رجل لابس هذا العمل، فسمي من أتصف بعده بصفته طفيلياً. وكانت العرب تسميه الوارش بشين معجمة، وتقول لمن يتبع الدعوة بغير دعوة ضيفن بنون زائدة. قال الفريابي: في هذه التسمية مناسبة اللفظ للمعنى في التبعية من حيث إنه تابع للضيف، والنون تابعة للكلمة قال الشاعر:
أوْغَلُ في التَّطفيلِ من ذُبابِ ● على طَعَامٍ وعلى شرابِ
لو أبصرَ الرغْفَانَ في السَّحابِ ● لطارَ في الجَوًّ بلا حِجَابِ
● شهادة الطفيلي مردودة
وقال أبن الصباغ: قال في الأم: ومن ثبت أنه يحضر الدعوة من غير دعاء، من غير ضرورة، لا يستأذن صاحب الطعام، وتكرر ذلك منه، ردت شهادته؛ لأنه يأكل محرماً إذا كانت الدعوة دعوة رجل من الرعية، فإن كانت دعوة سلطان أو من ينيبه السلطان فهذا طعام لا بأس به انتهى. قال أبن الصباغ: إنما أشترط تكرر ذلك، لأنه قد يكون له شبهة حتى يمنعه صاحب الطعام، فإذا تكرر ذلك منه صار دناءة وقلة مروءة انتهى. وإذا تبع المدعو غيره لم يمنعه ولم يأذن له، بل يعلم به الداعي. ويستحب له أن يدعوه إذا لم يكن فيه ضرر.
● الصديق ليس طفيليا
وقال المتولي وغيره إذا كان في الدار جاز لمن بينه وبين صاحب الطعام انبساط أن يدخل ويأكل إذا علم أنه لا يشق عليه انتهى. وروينا في خبر الهرثمية عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لكل شيء زكاة، وزكاة الدار بيت الضيافة " وهو حديث منكر.
● [ الولائم أثنتا عشرة ] ●
الثانية عشرة : وليمة النُّزُل
الثانية عشرة : وليمة النُّزُل