توتة- Admin
- عدد المساهمات : 2017
تاريخ التسجيل : 13/02/2014
من طرف توتة الأحد 27 فبراير - 19:59
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الإسلامية
شفاء العليل في مسائل
القضاء والقدر والحكمة والتعليل
● [ تابع الباب الموفي ثلاثين ] ●
● فصل ●
قال ابن عبد البر وقالت طائفة المراد بالفطرة في هذا الحديث الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة يريد أنه خلق خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقها إلى معرفة ربها قالوا والفاطر هو الخالق وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر قال شيخنا: "صاحب هذا القول أن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها فهذا ضعيف فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفا ولا أن يكون على الملة ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته" حين يسأل عمن مات صغيرا ولأن القدرة في الكبير أكمل منها في الصغير وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا أنهم أولاد المشركين قال أو ليس خياركم أولاد المشركين ما من مولود إلا ويولد على الفطرة ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان.
● فصل ●
قال أبو عمر وقال آخرون معنى قوله يولد على الفطرة يعني البداءة التي ابتدأهم عليها يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقته من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء إلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم غير إيمانهم واعتقادهم قالوا والفطرة في كلام العرب البداءة وألفاظ المبتدئ وكأنه قال يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاء والسعادة وغير ذلك مما يصير إليه وقد فطر عليه واحتجوا بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} وروى بإسناده إلى ابن عباس قال: "لم أدر ما فاطر السماوات والأرض حتى أتانا أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها وذكر دعاء على اللهم جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها" قال شيخنا: "حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه" ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة فجميع البهائم مولودة على ما سبق في علم الله لها والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله وحينئذ فيكون كل مخلوق قد خلق على الفطرة وأيضا فلو كان المراد ذلك لم يكن لقوله فأبواه يهودانه معنى فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها وعلى هذا القول فلا فرق بين التهويد والتنصير وبين تلقي الإسلام وتعليمه وبين تعلم سائر الحرف والصنائع فإن ذلك كله واحد فيما سبق به العلم وأيضا فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ثم جدعت تبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه وأيضا فقوله على هذه الملة وقوله أني خلقت عبادي حنفاء مخالف لهذا وأيضا فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان فإنه من حين كان جنينا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في علم الله فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بلا مخصص وقد ثبت في الصحيح: "أنه قيل حين نفخ الروح فيه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد" فلو قيل كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة لكان أشبه بهذا المعنى مع أن النفخ هو بعد الكتابة.
● فصل ●
قال أبو عمر قال محمد بن نصر المروزي: "وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن ابن المبارك أنه سئل عن هذا الحديث فقال يفسره قوله الله أعلم بما كانوا عاملين قال المروزي وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هنا القول ثم تركه" قال أبو عمر وما رسمه مالك في موطأه وذكر في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا قال شيخنا أئمة ألسنة مقصودهم أن الخلق صائرون إلى ما سبق في علم الله فيهم من إيمان وكفر كما في الحديث الآخر أن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا و الطبع الكتاب أي كتب كافرا كما في الحديث الصحيح فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد وليس إذا كان الله كتبه كافرا يقتضي أنه حين الولادة كافر بل يقتضي انه لا بد ان يكفر وذلك الكفر هو التغيير كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء وقد سبق في علمه أنها تجدع كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولادة ولا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة.
● فصل ●
وكلام أحمد في أجوبة له أخرى يدل على أن الفطرة عنده الإسلام كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه فإنه كان يقول: "أن صبيان أهل الحرب إذا سبوا بدون الأبوين كانوا مسلمين وإن كانوا معهما فهم على دينهما فإن سبوا مع أحدهما ففيه عنه روايتان" وكان يحتج بالحديث قال الخلال في الجامع أنبأنا أبو بكر المروزي أنبأنا عبد الله قال سبي أهل الحرب أنهم مسلمون إذا كانوا صغارا وإن كانوا مع أحد الأبوين وكان يحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأبواه يهودانه وينصرانه" قال وأما أهل الثغر فيقولون إذا كان مع أبويه أنهم يخيرونه على الإسلام قال ونحن لا نذهب إلى هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأبواه يهودانه وينصرانه" قال الخلال أنبأنا عبد الملك الميموني قال سألت أبا عبد الله قبل الحبس عن الصغير يخرج من أرض الروم وليس معه أبواه فقال: "إن مات صلى عليه المسلمون قلت يكره على الإسلام قال إذا كانوا صغارا يصلون عليهم أكره عليه قلت فإن كان معه أبواه قال إذا كان معه أبواه أو أحدهما لم يكره ودينه على دين أبويه" قلت إلى أي شيء يذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه" قال نعم وعمر بن عبد العزيز فأدى به فلم يرده إلى بلاد الروم إلا وحكمه حكمهم قلت في الحديث كان معه أبواه قال لا وليس ينبغي إلا أن يكون معه أبواه قال الخلال ما رواه الميموني قول أول لأبي عبد الله ولذلك نقل إسحاق بن منصور أن أبا عبد الله قال إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم قلت لا يجبرونه على الإسلام إذا كان معه أبواه أو أحدهما قال نعم قال الخلال وقد روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خلق كلهم قال: "إذا كان مع أحد أبويه فهو مسلم" وهؤلاء النفر سمعوا من أبي عبد الله بعد الحبس وبعضهم قبل وبعد والذي أذهب إليه ما رواه الجماعة قال الخلال وحدثنا أبو بكر المروزي قال قلت لأبي عبد الله: "أني كنت بواسط فسألوني عن الذي يموت هو وامرأته ويدعا طفلين ولهما عم ما تقول فيهما فإنهم قد كتبوا إلى البصرة فيها فقال أكره أن أقول فيها برأي دع حتى أنظر لعل فيهما عمن تقدم فلما كان بعد شهر عاودته قال نظرت فيها فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قال فأبواه يهودانه وينصرانه وهذا ليس له أبوان قلت يجبر على الإسلام قال نعم هؤلاء مسلمون لقول النبي صلى الله عليه وسلم" وكذلك نقل يعقوب بن سحبان قال قال أبو عبد الله: "إذا مات الذمي أبواه وهو صغير أجبر على الإسلام" وذكر الحديث "فأبواه يهودانه وينصرانه" ونقل عنه عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسيين: "يولد لهما ولد فيقولان هذا مسلم فيمكث خمس سنين ثم يتوفى قال ذاك يدفنه المسلمون قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأبواه يهودانه وينصرانه" وقال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن قوم يزوجون بناتهم من قوم علي أنه ما كان من ذكر فهو للرجل مسلم وما كان من أنثى فهي مشركة يهودية أو مجوسية أو نصرانية فقال يجبر هؤلاء من أبا منهم على الإسلام لأن أباهم مسلما لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فأبواه يهودانه وينصرانه يردون كلهم إلى الإسلام ومثل هذا كثير في أجوبته يحتج بالحديث على إنما يصير كافرا بأبويه فإذا لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم فلو لم تكن الفطرة الإسلام لم يكن بعدم أبويه يصير مسلما فإن الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة ونقل عنه الميموني أن الفطرة هي الدين وهي الفطرة الأولى قال الخلال: "أخبرني الميموني أنه قال لأبي عبد الله كل مولود يولد على الفطرة يدخل عليه إذا كان أبواه يعني أن يكون حكمه حكم ما كانوا صغارا فقال لي نعم ولكن يدخل عليك في هذا فتناظرنا بما يدخل علي من هذا القول وبما يكون" فقوله قلت لأبي عبد الله فما تقول أنت فيها وإلى أي شيء تذهب قال أقول أنا ما أدري أخبرك هي مسلمة كما ترى ثم قال لي والذي يقول كل مولود يولد على الفطرة ينظر أيضا إلى الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها قلت له فما الفطرة الأولى أهي الدين قال نعم فمن الناس من يحتج بالفطرة الأولى مع قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة" قلت لأبي عبد الله فما تقول لأعرف قولك قال أقول أنه على الفطرة الأولى قال شيخنا: "فجواب أحمد أنه على الفطرة الأولى وقوله أنها الدين يوافق القول بأنه على دين الإسلام".
● فصل ●
وأما جواب أحمد أنه على ما فطر من شقاوة وسعادة الذي ذكر محمد بن نصر أنه كان يقول به ثم تركه فقال الخلال أخبرني محمد بن يحيى الكحال أنه قال لأبي عبد الله كل مولود يولد على الفطرة ما تفسيرها قال: "هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها شقي أو سعيد" وكذلك نقل عنه الفضل بن زياد وجبيل وأبو الحارث أنهم سمعوا أبا عبد الله في هذه المسألة قال: "الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقاوة والسعادة" وكذلك نقل عنه علي بن سعيد أنه سأل أبا عبد الله عن كل مولود يولد على الفطرة قال: "الشقاوة والسعادة" قال "يرجع إلى ما خلق" وعن الحسن بن بواب قال سألت أبا عبد الله عن أولاد المشركين قلت أن ابن أبي شيبة أبا بكر قال: "هو على الفطرة حتى يهوداه أبواه أو ينصرانه" فلم يعجبه شيء من هذا القول وقال كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة يولد على الفطرة التي خلق عليها من الشقاء والسعادة التي سبقت في أم الكتاب أرفع ذلك إلى الأصل هذا معنى كل مولود يولد على الفطرة فمن أصحابه من قال هذا قولا قديما له ثم تركه ومنهم من جعل المسألة على روايتين وأطلق ومنهم من حكى عنه في ثلاث روايات الثالثة الوقف.
● فصل ●
قال شيخنا: "والإجماع والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلا على القول الذي رجحناه وهو أنهم على الفطرة ثم صاروا إلى ما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة لا يدل على أنهم حين الولادة لم يكونوا على فطرة سليمة مقتضية للإيمان ومستلزمة له لولا العارض" وروى ابن عبد البر بإسناده عن موسى بن عبيدة سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} قال: "من ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وأن عمل بعمل أهل الضلالة ومن ابتدأ خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة وإن عمل بعمل أهل الهدى ابتدأ خلق إبليس على الضلالة وعمل بعمل أهل السعادة مع الملائكة ثم رده الله إلى ما ابتدأ خلقه عليه من الضلالة" فقال: "وكان من الكافرين وابتدأ خلق السحرة على الهدى وعملوا بعمل أهل الضلالة ثم هداهم الله إلى الهدى والسعادة وتوفاهم عليها مسلمين" فهذا المنقول عن محمد بن كعب يبين أن الذي ابتدأهم عليه هو ما كتب أنهم صائرون إليه وأنهم قد يعملون قبل ذلك غيره وأن من ابتدئ على الضلالة أي كتب أن يموت ضالا فقد يكون قبل ذلك عاملا بعمل أهل الهدى وحينئذ فمن ولد على الفطرة السليمة المقتضية للهدى لا يمنع أن يعرض لها ما يغيرها فيصير إلى ما سبق به القدر كما في الحديث الصحيح: "أن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وأن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة" وقال سعيد بن جبير في قوله: "كما بدأ كم تعودون قال كما كتب عليكم تكونون" وقال مجاهد: "كما بدأكم تعودون شقي وسعيد" وقال أيضا: "يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا" وقال أبو العالية: "عادوا إلى علمه فيهم فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة" قلت هذا المعنى صحيح في نفسه دل عليه القرآن والسنة والآثار السلفية وإجماع أهل السنة وأما كونه هو المراد بالآية ففيه ما فيه والذي يظهر من الآية أن معناها معنى نظرائها وأمثالها من الآيات التي يحتج الله سبحانه فيها على النشأة الثانية بالأولى وعلى المعاد بالمبدأ فجاء باحتجاج في غاية الاختصار والبيان فقال كما بدأكم تعودون كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} وقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} الآية وقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} إلى قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وقوله : {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} أي على رجع الإنسان حيا بعد موته هذا هو الصواب في معنى الآية يبقى أن يقال فكيف يرتبط هذا بقوله فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلال فيقال هذا الذي أوجب لأصحاب ذلك القول ما تأولوا به الآية ومن تأمل الآية علم أن القول أولى بها ووجه الارتباط أن الآية تضمنت قواعد الدين علما وعملا واعتقادا فأمر سبحانه فيها بالقسط هو الذي هو حقيقة شرعه ودينه وهو يتضمن التوحيد فإنه أعدل العدل والعدل في معاملة الخلق والعدل في العبادة وهو الاقتصاد في السنة ويتضمن الأمر بالإقبال على الله وإقامة عبوديته في ثبوته ويتضمن الإخلاص له وهو عبوديته وحده لا شريك له فهذا ما فيها من العمل ثم أخبر بمبدأهم ومعادهم فتضمن ذلك حدوث الخلق وإعادته فذلك الإيمان بالمبدأ والمعاد ثم أخبر عن القدر الذي هو نظام التوحيد فقال فريقا هدى وفريفا حق عليهم الضلالة فتضمنت الآية الإيمان بالقدر والشرع والمبدأ والمعاد والأمر بالعدل والإخلاص ثم ختم الآية بذكر حال من لم يصدق هذا الخبر ولم يطع هنا الأمر بأنه قدوا للشيطان دون ربه وأنه على ضلال وهو يحسب أنه على هدى والله أعلم.
● فصل ●
وقال آخرون يعني قوله كل مولود يولد على الفطرة أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة وعلى الكفر والإيمان فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال ألست بربكم قالوا جميعا بلى فأما أهل السعادة فقالوا بلى على معرفة له طوعا من قلوبهم وأما أهل الشقاء فقالوا بلى كرها غير طوع قالوا ويصدق ذلك قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} قالوا وكذلك قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} قال محمد بن نصر المروزي سمعت إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى واحتج بقول أبي هريرة: "اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}" قال الحق نقول لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار واحتج بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية قال إسحاق أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد واستنطقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى قال انظروا أن لا تقولوا أنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وذكر حديث أبي بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر قال وكان الظاهر ما قال موسى أقتلت نفسا زكية بغير نفس فأعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه من الفطرة التي فطره عليها وأنه لا تبديل لخلق الله فأمر بقتله لأنه كان قد طبع كافرا وفي صحيح البخاري أن ابن عباس كان يقرأها وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين قال إسحاق: "فلو ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين" لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد عليه حتى أخرج من ظهر آدم فبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم الأطفال في الدنيا بأن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه يقول أنتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى لكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه فاعرفوا ذلك بالأبوين فمن كان صغيرا بين أبوين مسلمين ألحق بحكم الإسلام وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه فعلم ذلك إلى الله وبعلم ذلك فضل الله الخضر في علمه هذا على موسى إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصه بذلك قال ولقد سئل ابن عباس عن ولدان المسلمين والمشركين فقال: "حسبك ما اختصم فيه موسى والخضر" قال إسحاق: "ألا ترى إلى قول عائشة حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين طوبى له عصفور من عصافير الجنة فرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم وقال مه يا عائشة وما يدريك أن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلق النار وخلق لها أهلا" قال إسحاق: "فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم" وسئل حماد بن سلمة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة" فقال: "هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم قال ابن قتيبة يريد حين مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" قال شيخنا: "أصل مقصود الأئمة صحيح وهو منع احتجاج القدرية بهذا الحديث على نفي القدر لكن لا يحتاج مع ذلك أن يفسر القرآن والحديث إلا بما هو مراد الله ورسوله ويجب أن يتبع في ذلك ما دل عليه الدليل" وما ذكروه أن الله فطرهم على الكفر والإيمان والمعرفة والنكرة إن أرادوا به أن الله سبق في علمه وقدره بأنهم سيؤمنون ويكفرون ويعرفون وينكرون وإن ذلك كان بمشيئة الله وقدره وخلقه فهذا حق ترده القدرية فغلاتهم ينكرون العلم وجميعهم ينكرون عموم خلقه ومشيئته وقدرته وإن أرادوا أن هذه المعرفة والنكرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق كما في ظاهر المنقول عن إسحاق فهذا يتضمن شيئين أحدهما أنهم حينئذ كانت المعرفة والإيمان موجودا فيهم كما قال ذلك طوائف من السلف وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه وفي تفسير الآية نزاع بين الأئمة وكذلك في خلق الأرواح قبل الأجساد قولان معروفان لكن المقصود هنا أن هذا إن كان حقا فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والإقرار فهذا لا يخالف ما دلت عليه الأحاديث من أنه يولد على الملة وأن الله خلق خلقه حنفاء بل هو مؤيد لذلك وأما قول القائل أنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى مطيع وكافر فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فيما أعلم إلا عن السدي في تفسيره قال لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم أدخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال أدخلوا النار ولا أبالي ذلك قوله وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال الست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله بأنه ربه وذلك قوله عز وجل: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} وكذلك قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} يعني يوم أخذ الميثاق قال شيخنا: "وقيل هذا الأثر لا يوثق به" فإن في تفسير السدي أشياء قد عرف بطلان بعضها وهو ثقة في نفسه وأحسن أحوال هذا وأمثاله أن يكون كالمراسيل إن كان مأخوذا عن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف إذا كان مأخوذا عن أهل الكتاب ولو لم يكن في هذا إلا معارضة لسائر الآثار التي تتضمن التسوية بين جميع الناس في الإقرار لكفى وأما قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} فإنما هو في الإسلام الموجود منهم بعد خلقهم لم يقل أنهم حين العهد الأول أسلموا طوعا وكرها يدل على ذلك أن ذلك الإقرار الأول جعله الله عليهم حجة على من ينسه ولو كان فيهم كاره لقال لم أقر طوعا بل كرها فلا يقوم به عليه حجة وأما احتجاج أحمد بقول أبي هريرة "اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}" فهذه الآية فيها قولان أحدهما أن معناها النهي كما تقدم عن أبن جرير أنه فسرها فقال أي لا تبدلوا دين الله الذي فطر عليه عباده وهذا قول غير واحد من المفسرين لم يذكروا غيره والثاني ما قاله إسحاق وهو أنها خبر على ظاهرها وأن خلق الله لا يبدله أحد وظاهر اللفظ خبر فلا يجعل نهيا بغير حجة وهذا أصح وحينئذ فيكون المراد أن ما جبلهم عليه من الفطرة لا يبدل فلا يجبلون على غير الفطرة لا يقع هذا أصلا والمعنى أن الخلق لا يتبدل فيخلقون على غير الفطرة ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغير بعد الخلق بل نفس الحديث يبين أنها تتغير ولهذا شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع ولا تولد بهيمة مخصية ولا مجدوعة وقد قال تعالى عن الشيطان: {لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} أقدر الخلق على أن يغيروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته وإنما تبديل الخلق بأن يخلقوا على غير تلك الفطرة فهذا لا يقدر عليه إلا الله والله لا يفعله كما قال لا تبديل لخلق الله ولم يقل لا تغيير فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله ولكن إذا غير بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الولادة وأما قول القائل لا تبديل للخلقة التي جبل عليها بنو آدم كلهم من كفر وإيمان فإن عني به ما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه فهذا حق ولكن ذلك لا يقتضي أن تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنع ولا أنه غير مقدور بل العبد قادر على ما أمره الله به من الإيمان وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر وعلى أن يبدل حسناته بالسيئات وسيئاته بالحسنات كما قال الله إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء وهذا التبديل كله بقضاء الله وقدره وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة فإن ذلك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره وهو سبحانه لا يبدله بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس فأنه يبدله كثيرا والعبد قادر على تبديله بإقدار الرب له على ذلك ومما يوضح ذلك قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} فهذه فطرة محمودة أمر الله بها نبيه فكيف تنقسم إلى كفر وإيمان مع أمر الله تعالى بها وقد تقدم تفسير السلف لا تبديل لخلق الله أي لدين الله أو النهي عن الخصا ونحوه ولم يقل أحد منهم أن المعني لا تبديل لأحوال العباد من كفر إلى إيمان وعكسه فإن تبديل ذلك موجود ومهما وقع كان هو الذي سبق به القدر والرب تعالى عالم بما سيكون لا يقع خلاف معلومه فإذا وقع التبديل كان هو الذي علمه وأما قوله عن الغلام أنه طبع يوم طبع كافرا فالمراد به أنه كتب كذلك وقدر وختم فهو من طبع الكتاب ولفظ الطبع لما صار يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الخلقة والجبلة ظن الظان أن هذا مراد الحديث وهذا الغلام الذي قتله الخضر ليس في القرآن ما يبين أنه كان غير بالغ ولا مكلف بل قراءة ابن عباس تدل على أنه كافر كان في الحال وتسميته غلاما لا يمنع أن يكون مكلفا قريب العهد بالصغر ويدل عليه أن موسى لم ينكر قتله لصغره بل لكونه زاكيا ولم يقتل نفسا لكن يقال في الحديث الصحيح ما يدل على أنه كان غير بالغ من وجهين أحدهما أنه قال فمر بصبي يلعب مع الصبيان الثاني أنه قال ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد فيقال الكلام على الآية على التقديرين فإن كان بالغا وقد كفر فقد قتل على كفره الواقع بعد البلوغ ولا إشكال وإن كان غير بالغ فلعل تلك الشريعة كان فيها التكليف قبل الاحتلام عند قوة عقل الصبي وكمال تميزه وإن لم يكن التكليف قبل البلوغ بالشرائع واقعا فلا يمتنع وقوعه بالتوحيد ومعرفة الله كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم وعلى هذا فيمكن أن يكون مكلفا بالإيمان قبل البلوغ وإن لم يكن مكلفا بشرائعه وكفر الصبي المميز عند أكثر العلماء مؤاخذ به فإذا ارتد صار مرتدا لكن لا يقتل حتى يبلغ فالغلام الذي قتله الخضر إما أن يكون كافرا بعد البلوغ فلا إشكال وإما أن يكون غير بالغ وهو مكلف في تلك الشريعة فلا أشكال أيضا وإما أن يكون مكلفا بالتوحيد والمعرفة غير مكلف بالشرائع فيجوز قتله في تلك الشريعة وإما أن لا يكون مكلفا فقتل لئلا يفتتن أبويه عن دينهما كما يقتل الصبي الكافر في ديننا إذا لم يندفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل وأما قتل صبي لم يكفر بعد بين أبوين مؤمنين للعلم بأنه إذا بلغ كفر وفتن أبويه فقد يقال ليس في القرآن ولا في السنة ما يدل عليه وأيضا فإن الله لم يأمر أن يعاقب أحد بما يعلم أنه يكون منه قبل أن يكون منه ولا هو سبحانه يعاقب العباد على ما يعلم أنهم سيفعلونه حتى يفعلونه وقائل هذا القول يقول أنه ليس في قصة الخضر شيء من الاطّلاع على الغيب الذي لا يعلمه عموم الناس وإنما فيها علمه بأسباب لم يكن علم بها موسى مثل علمه بأن السفينة لمساكين يعلمون ورائهم ملك ظالم وهذا أمر يعلمه غيره وكذلك كون الجدار كان لغلامين يتيمين وأن أباهما كان رجلا صالحا وأن تحته كنزا لهما مما يمكن أن يعلمه كثير من الناس وكذلك كفر الصبي مما يمكن أنه كان يعلمه كثير من الناس حتى أبواه لكن لحبهما له لا ينكران عليه أو لا يقبل منهما فإن كان الأمر على ذلك فليس في الآية حجة على قولهم أصلا وأن ذلك الغلام لم يكفر بعد ولكن سبق في العلم أنه إذا بلغ كفر فمن يقول هذا يقول أن قتله دفعا لشره كما قال نوح: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} وعلى هذا فلم يكن قبل قيام الكفر به كافرا وقراءة ابن عباس وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ظاهرة أنه كان حينئذ كافرا فإن قيل فهذا الغلام كان أبواه مؤمنين فلو كان مولودا على فطرة الإسلام وهو بين أبوين مسلمين لكان مسلما تبعا لهما وبحكم الفطرة فكيف يقتل والحالة هذه قيل إن كان بالغا فلا إشكال وإن كان مميزا وقد كفر فيصح كفره وردته عند كثير من العلماء وأن لا يقتل حتى يبلغ عندهم فلعل في تلك الشريعة يجوز قتل المميز الكافر وإن كان صغيرا غير مميز فيكون قتله خاصا به لأن الله أطلع الخضر عل أنه لو بلغ لاختار غير دين الأبوين وعلى هذا يدل قول ابن عباس لنجدة وقد سأله عن قتل صبيان الكفار فقال: "لئن علمت فيهم ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم" فإن قيل إذا كان مولودا على الفطرة وأبواه مؤمنين فمن أين جاء الكفر قيل إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على الغالب وإلا فالكفر قد يأتيه من قبل غير أبويه فهذا الغلام إن كان كافرا في الحال فقد جاء الكفر من غير جهة أبويه وإن كان المراد أنه إذا بلغ سيكفر باختياره فلا إشكال.
● فصل ●
وأما تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" أنه أراد به مجرد الإلحاق في أحكام الدنيا دون أن يكون أراد أنهما يغيران الفطرة فهذا خلاف ما يدل عليه الحديث فإنه شبه تكفير الأطفال بجدع البهائم تشبيها للتغيير بالتغيير وأيضا فإنه ذكر هذا الحديث لما قتل أولاد المشركين فنهاهم عن قتلهم وقال أليس خياركم أولاد المشركين كل مولود يولد على الفطرة فلو أراد أنه تابع لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة لهم يقولون هم كفار كآبائهم وكون الصغير يتبع أبواه في أحكام الدنيا هو لضرورة بقائه في الدنيا فإنه لا بد له من مرب يربيه وإنما يربيه أبواه فكان تابعا لهما ضرورة ولهذا من سبي منفردا عنهما صار تابعا لسابيه عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم لكونه هو الذي يربيه وإذا سبي منفردا عن أحدهما أو معهما ففيه نزاع بين العلماء واحتجاج الفقهاء كأحمد وغيره بهذا الحديث على أنه متى سبي منفردا عن أبويه يصير مسلما إذ يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين لهما مجرد لحاقه لهما في الدين ولكن وجه الحجة أنه إذا ولد ولد على الملة فإنما ينقله عنه الأبوان اللذان يغيرانه عن الفطرة فمتى سباه المسلمين منفردا عنهما لم يكن هناك من يغير دينه وهو مولود على الملة الحنيفية فيصير مسلما بالمقتضى السالم عن المعارض ولو كان الأبوان يجعلانه كافرا في نفس الأمر بدون تعليم لكان الصبي المسبي بمنزلة البالغ الكافر ومعلوم أن البالغ الكافر إذا سباه المسلمون لم يصر مسلما لأنه صار كافرا حقيقة فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرا حقيقة لم ينتقل عن الكفر بالسباء فعلم أنه كان يجري عليه حكم الكفر في الدنيا تبعا لأبويه لأنه صار كافرا في نفس الأمر تبين ذلك أنه لو سباه كفار ولم يكن معه أبواه لم يصر مسلما فهو هنا كافر في حكم الدنيا وإن لم يكن أبواه هوداه ونصراه فعلم أن المراد بالحديث أن الأبوين يلقناه الكفر ويعلمانه إياه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأبوين لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال فإن كل طفل فلا بد له من أبوين وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما ومما يبين ذلك قوله في الحديث الآخر "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا" فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز فحينئذ يتبين له أحد الأمرين ولو كان كافرا في الباطن بكفر الأبوين لكان ذلك من حين يولد قبل أن يعرب عنه لسانه وكذلك قوله في الحديث الصحيح: "أني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم وحرمت عليهم الحلال وأمرتهم بالشرك" فلو الطفل كان يصير كافرا في نفس الأمر من حين يولد لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه إياه لم تكن الشياطين هم الذين غيروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك.
● فصل ●
ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة فإن أولاد الكفار لما كان تجري عليهم أحكام الكفر في الدنيا مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم وحضانتهم لهم وتمكنهم من تعليمهم وتأديبهم والموازنة بينهم وبين نبيهم واسترقاقهم وغير ذلك صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به ومن ها هنا قال محمد بن الحسن: "أن هذا الحديث وهو قوله كل مولود يولد على الفطرة كان قبل أن تنزل الأحكام" فإذا عرف أن كونهم ولدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا وقد زالت الشبهة وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن يكتم إيمانه ولا يعلم المسلمون حاله فلا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين وهو في الآخرة من أهل الجنة كما أن المنافقين في الدنيا تجري عليهم أحكام المسلمين وهم في الدرك الأسفل من النار فحكم الدار الآخرة غير حكم الدار الدنيا وقوله "كل مولود يولد على الفطرة" إنما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها وعلى الثواب والعقاب في الآخرة إذا عملوا بموجبها وسلمت عن المعارض ولم يرد به الإخبار بأحكام الدنيا فإنه قد علم بالاضطرار من شرع الرسول أن أولاد الكفار تبع لآبائهم في أحكام الدنيا وأن أولادهم لا ينزعون منهم إذا كانوا ذمة فإن كانوا محاربين استرقوا ولم يتنازع المسلمون في ذلك لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما هل يحكم بإسلامه وعن أحمد في ذلك ثلاث روايات إحداهن يحكم بإسلامه بموت الأبوين أو أحدهما لقوله فأبواه يهودانه وينصرانه وهذا ليس معه أبواه وهو على الفطرة وهي الإسلام لما تقدم فيكون مسلما والثانية لا يحكم بإسلامه بذلك وهذا قول الجمهور قال شيخنا: "وهذا القول هو الصواب بل هو إجماع قديم من السلف والخلف بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها فقد علم أن أهل الذمة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ووادي القرى وخيبر ونجران واليمن وغير ذلك وكان فيهم من يموت وله ولد صغير ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام أهل الذمة ولا خلفاؤه وأهل الذمة كانوا في زمانهم طبق الأرض بالشام ومصر والعراق وخراسان وفيهم من يتاماهم عدد كثير ولم يحكموا بإسلام واحد منهم فإن عقد الذمة اقتضى أن يتولى بعضهم بعضا فهم يتولون حضانة يتاماهم كما كان الأبوان يتولون تربيتهم" وأحمد يقول أن الذمي إذا مات ورثه ابنه الطفل مع قوله في إحدى الروايات أنه يصير مسلما لأن أهل الذمة ما زال أولادهم يرثوهم لأن الإسلام حصل مع استحقاق الإرث لم يحصل قبله ونص على أنه إذا مات الذمي عن حمل منه لم يرثه للحكم بإسلامه قبل وضعه وكذلك لو كان الحمل من غيره كما إذا مات وخلف امرأة ابنه أو أخيه حاملا فأسلمت أمه قبل وضعه لم يرثه لأنا حكمنا بإسلامه من حين أسلمت أمه وكذلك هناك حكمنا بإسلامه من حين مات أبوه وقد وافق الإمام أحمد الجمهور على أن الطفل إذا مات أبواه في دار الحرب لا يحكم بإسلامه ولو كان موت الأبوين يجعله مسلما بحكم الفطرة الأولى لم يفترق الحال بين دار الحرب ودار الإسلام لوجود المقتضى للإسلام وهو الفطرة وعدم المانع وهو الأبوان وقد التزم بعض أصحابه الحكم بإسلامه وهو باطل قطعا إذ من المعلوم بالضرورة أن أهل الحرب فيهم من بلغ يتيما لغيره وأحكام الكفار المحاربين جارية عليهم والرواية الثالثة إن كفله أهل دينه فهو باق على دين أبويه وإن كلفه المسلمون فهو مسلم نص عليه في رواية يعقوب بن بحنان كما ذكره الخلال في جامعه عنه قال سئل أبو عبد الله عن جارية نصرانية لقوم فولدت عندهم ثم ماتت ما يكون الولد قال إذا كفله المسلمون ولم يكن له من يكفله إلا هم فهم مسلمون قيل له فإن مات بعد الأم بقليل قال يدفنه المسلمون وقال في رواية أبي الحارث في جارية نصرانية لرجل مسلم لها زوج نصراني فولدت عنده وماتت عند المسلم وبقي ولدها عنده ما يكون حكم هذا الصبي قال إذا كفله المسلمون فهو مسلم وهذه الرواية إن لم يذكرها عامة الأصحاب وهي من جامع الخلال فهي أصح الأقوال في هذه المسألة دليلا وهي التي نختارها وبها تجتمع الأدلة فإن الطفل يتبع مالكه وسابيه فكذلك يتبع كافله وحاضنه فإنه لا يستقل بنفسه بل لا بد له ممن يتبعه ويكون معه فتبعيته لحاضنه وكافله أولى من جعله كافرا بكون أبويه كافرين وقد انقطعت تبعيته لهما بخلاف ما إذا كفله أهل دين الأبوين فإنهم يقومون مقامهما ولا أثر لفقد الأبوين إذا كفله جده أو جدته أو غيرهما من أقاربه فهذا القول أرجح في النظر والله أعلم وليس المقصود ذكر هذه المسائل وما يصير به الطفل مسلما فإنا قد استوفيناها في كتابنا في أحكام أهل الملل بأدلتها واختلاف العلماء من السلف والخلف فيها وذكر مأخذهم وإنما المقصود ذكر الفطرة وأنها هي الحنيفية وأنها لا تنافي القدر السابق بالشقاوة والله أعلم.
كتاب : شفاء العليل في مسائل
القضاء والقدر والحكمة والتعليل
تأليف : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
منتدى ميراث الرسول - البوابة