توتة- Admin
- عدد المساهمات : 2017
تاريخ التسجيل : 13/02/2014
من طرف توتة الأحد 27 فبراير - 19:57
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الإسلامية
شفاء العليل في مسائل
القضاء والقدر والحكمة والتعليل
● [ الباب الثامن والعشرون ] ●
● الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه
هذا الباب من تمام الإيمان بالقضاء والقدر وقد تنازع الناس فيه هل هو واجب أو مستحب على قولين وهما وجهان لأصحاب أحمد فمنهم من أوجبه واحتج على وجوبه بأنه من لوازم الرضا بالله ربا وذلك واجب واحتج بأثر إسرائيلي من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليتخذ له ربا سواي ومنهم من قال هو مستحب غير واجب فإن الإيجاب يستلزم دليلا شرعيا ولا دليل يدل على الوجوب وهذا القول أرجح فإن الرضا من مقامات الإحسان التي هي من أعلى المندوبات وقد غلط في هذا الأصل طائفتان أقبح غلط فقالت القدرية النفاة الرضا بالقضاء طاعة وقربة والرضا بالمعاصي لا يجوز فليست بقضائه وقدره وقالت غلاة الجبرية الذين طووا بساط الأمر والنهي المعاصي بقضاء الله وقدره والرضاء بالقضاء قربة وطاعة فنحن نرضى بها ولا نسخطها واختلفت طرق أهل الإثبات في جواب الطائفتين فأجابهم طائفة بأن لها وجهين وجها يرضى بها منه وهو إضافتها إلى الله سبحانه خلقا ومشيئة ووجه يسخط منه وهو إضافتها إلى العبد فعلا واكتسابا وهذا جواب جيد لو وفوا به فإن الكسب الذي أثبته كثير منهم لا حقيقة له إذ هو عندهم مقارنة الفعل للإرادة والقدرة إيجاد به من غير أن يكون لهما تأثير بوجه ما وقد تقدم الكلام في ذلك بما فيه كفاية وأجابهم طائفة أخرى بأنا نرضى بالقضاء الذي هو فعل الرب ونسخط المقضي الذي هو فعل العبد وهذا جواب جيد لو لم يعودوا عليه بالنقض وبالإبطال فإنهم قالوا الفعل غير المفعول فالقضاء عندهم نفس المقضي فلو قال الأولون بأن للكسب تأثير في إيجاد الفعل وأنه سبب لوجوده وقال الآخرون بأن الفعل غير المفعول لأصابوا في الجواب وأجابتهم طائفة أخرى بأن من القضاء ما يؤمر بالرضا به ومنه ما ينهى عن الرضا به فالقضاء الذي يحبه الله ويرضاه نرضى به والذي يبغضه ويسخطه لا نرضى به وهذا كما أن من المخلوقات ما يبغضه ويسخطه وهو خالقه كالأعيان المسخوطة له فهكذا الكلام في الأفعال والأقوال سواء وهذا جواب جيد غير أنه يحتاج إلى تمام فنقول الحكم والقضاء نوعان ديني وكوني فالديني يجب الرضا به وهو من لوازم الإسلام والكوني منه ما يجب الرضا به كالنعم التي يجب شكرها ومن تمام شكرها الرضا بها ومنه ما لا يجوز الرضا به كالمعايب والذنوب التي يسخطها الله وإن كانت بقضائه وقدره ومنه ما يستحب الرضا به كالمصائب وفي وجوبه قولان هذا كله في الرضا بالقضاء الذي هو المقضي وأما القضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله كعلمه وكتابه وتقديره ومشيئته فالرضا به من تمام الرضا بالله ربا وإلها ومالكا ومدبرا فبهذا التفصيل يتبين الصواب ويزول اللبس في هذه المسألة العظيمة التي هي مفرق طرق بين الناس فإن قيل فكيف يجتمع الرضا بالقضاء بالمصائب مع شدة الكراهة والنفرة منها وكيف يكلف العبد أن يرضى بما هو مؤلم له وهو كاره له وإلا لم يقتض الكراهة والبغض المضاد للرضا واجتماع الضدين محال قيل الشيء قد يكون محبوبا مرضيا من جهة ومكروها من جهة أخرى كشرب الدواء النافع الكريه فإن المريض يرضى به مع شدة كراهته له وكصوم اليوم الشديد الحر فإن الصائم يرضى به مع شدة كراهته له وكالجهاد للأعداء قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فالمجاهد المخلص يعلم أن القتال خير له فرضي به وهو يكرهه لما فيه من التعرض لإتلاف النفس وألمها ومفارقة المحبوب ومتى قوي الرضا بالشيء وتمكن انقلبت كراهته محبة وإن لم يخل من الألم فالألم بالشيء لا ينافي الرضا به وكراهته من وجه لا ينافي محبته وإرادته والرضا به من وجه آخر فإن قيل فهذا في حكم رضا العبد بقضاء الرب فهل يرضى سبحانه ما قضى به من الكفر والفسوق والعصيان بوجه من الوجوه قيل هذا الموضع أشكل من الذي قبله قال كثير من الأشعرية بل جمهورهم ومن اتّبعهم أن الرضا والمحبة والإرادة في حق الرب تعالى بمعنى واحد وأن كل ما شاءه وأراده فقد أحبه ورضيه ثم أوردوا على أنفسهم هذا السؤال وأجابوا بأنه لا يمتنع أن يقال أنه يرضى بها ولكن لا على وجه التخصيص بل يقال يرضى بكل ما خلقه وقضاه وقدره ولا نفرد من ذلك الأمور المذمومة كما يقال هو رب كل شيء ولا يقال رب كذا وكذا للأشياء الحقيرة الخسيسة وهذا تصريح منهم بأنه راض بها في نفس الأمر وإنما امتنع الإطلاق أدبا واحتراما فقط فلما أورد عليهم قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أجابوا عنه بجوابين أحدهما ممن لم يقع منه وأما من وقع منه فهو يرضاه إذ هو بمشيئته وإرادته والثاني لا يرضاه لهم دينا أي لا يشرعه لهم ولا يأمرهم به ويرضاه منهم كونا وعلى قولهم فيكون معنى الآية ولا يرضى لعباده الكفر حيث لم يوجد منهم فلو وجد منهم أحبه ورضيه وهذا في البطلان والفساد كما تراه وقد أخبر سبحانه أنه لا يرضى ما وجد من ذلك وإن وقع بمشيئته كما قال تعالى: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} فهذا قول واقع بمشيئته وتقديره وقد أخبر سبحانه أنه لا يرضاه وكذلك قوله سبحانه: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} فهو سبحانه لا يحبه كونا ولا دينا وإن وقع بتقديره كما لا يحب إبليس وجنوده وفرعون وحزبه وهو ربهم وخالقهم فمن جعل المحبة والرضا بمعنى الإرادة والمشيئة لزمه أن يكون الله سبحانه محبا لإبليس وجنوده وفرعون وهامان وقارون وجميع الكفار وكفرهم والظلمة وفعلهم وهذا كما أنه خلاف القرآن والسنة والإجماع المعلوم بالضرورة فهو خلاف ما عليه فطر العالمين التي لم تغير بالتواطي والتواصي بالأقوال الباطلة وقد أخبر سبحانه أنه يمقت أفعالا كثيرة ويكرهها ويبغضها ويسخطها فقال: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} وقال: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وقال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} ومحال حمل هذه الكراهة على غير الكراهة الدينية الأمرية لأنه أمرهم بالجهاد وقال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} فأخبر أنه يكره ويبغض ويمقت ويسخط ويعادي ويذم ويلعن ومحال أنه يحب ذلك ويرضى به وهو سبحانه يكره ويتقدس عن محبة ذلك وعن الرضا به بل لا يليق ذلك بعبده فإنه نقص وعيب في المخلوق أن يحب الفساد والشر والظلم والبغي والكفر ويرضاه فكيف يجوز نسبة ذلك إلى الله تبارك وتعالى وهذا الأصل من أعظم ما غلط فيه كثير من مثبتي القدر وغلطهم فيه يوازن غلط النفاة في إنكار القدر أو هو أقبح منه وبه وتسلط عليهم النفاة وتمادوا على قبح قولهم وأعظموا الشناعة عليهم به فهؤلاء قالوا يحب الكفر والفسوق والعصيان والظلم والبغي والفساد وأولئك قالوا لا يدخل تحت مشيئته وقدرته وخلقه وأولئك قالوا لا يكون في ملكه إلا ما يحبه ويرضاه وهؤلاء قالوا يكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون فسبحان الله وتعالى عما يقول الفريقان علوا كبيرا والحمد لله الذي هدانا لما أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وفطر عليه عباده وبرأنا من بدع هؤلاء وهؤلاء فله الحمد والمنة والفضل والنعمة والثناء الحسن ونسأله التوفيق لما يحبه يرضاه وان يجنبنا مضلات البدع والفتن.
● [ الباب التاسع والعشرون ] ●
● الباب التاسع والعشرون : في انقسام القضاء والحكم والإرادة والكتابة والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والانتباه إلى كوني متعلق بخلقه وإلى ديني متعلق بأمره وما يحقق ذلك من إزالة اللبس والإشكال.
هذا الباب متصل بالباب الذي قبله وكل منهما يقرر لصاحبه فما كان من كوني فهو متعلق بربوبيته وخلقه وما كان من الديني فهو متعلق بإلهيته وشرعه وهو كما أخبر عن نفسه سبحانه له الخلق والأمر فالخلق قضاؤه وقدره وفعله والأمر شرعه ودينه فهو الذي خلق وشرع وأمر وأحكامه جارية على خلقه قدرا وشرعا ولا خروج لأحد عن حكمه الكوني القدري وأما حكمه الديني الشرعي فيعصيه الفجار والفساق والأمران غير متلازمين فقد يقضي ويقدر ما لا يأمر به ولا شرعه وقد يشرع ويأمر بما لا يقضيه ولا يقدره ويجتمع الأمران فيما وقع من طاعات عبادة وإيمانهم وينتفي الأمران عما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر وينفرد القضاء الديني والحكم الشرعي في ما أمر به وشرعه ولم يفعله المأمور وينفرد الحكم الكوني فيما وقع من المعاصي إذا عرف ذلك فالقضاء في كتاب الله نوعان كوني قدري كقوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} وقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} وشرعي ديني كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} أي أمر وشرع ولو كان قضاء كونيا لما عبد غير الله والحكم أيضا نوعان فالكوني كقوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي افعل ما تنصر به عبادك وتخذل به أعداءك والديني كقوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} وقد يرد بالمعنيين معا كقوله: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} فهذا يتناول حكمه الكوني وحكمه الشرعي والإرادة أيضا نوعان فالكونية كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} وقوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} والدينية كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} فلو كانت هذه الإرادة كونية لما حصل العسر لأحد منا ولو وقعت التوبة من جميع المكلفين وبهذا التفصيل يزول الاشتباه في مسألة الأمر والإرادة هل هما متلازمان أم لا فقالت القدرية الأمر يستلزم الإرادة واحتجوا بحجج لا تندفع وقالت المثبتة الأمر لا يستلزم الإرادة واحتجوا بحجج لا تندفع والصواب أن الأمر يستلزم الإرادة الدينية ولا يستلزم الإرادة الكونية فإنه لا يأمر إلا بما يريده شرعا ودينا وقد يأمر بما لا يريده كونا وقدرا كإيمان من أمره ولم يوفقه للإيمان مراد له دينا لا كونا وكذلك أمر خليله بذبح ابنه ولم يرده كونا وقدرا وأمر رسوله بخمسين صلاة ولم يرد ذلك كونا وقدرا وبين هذين الأمرين وأمر من لم يؤمن بالإيمان فرق فإنه سبحانه لم يحب من إبراهيم ذبح ولده وإنما أحب منه عزمه على الامتثال وأن يوطن نفسه عليه وكذلك أمره محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بخمسين صلاة وأما أمر من علم أنه لا يؤمن بالإيمان فإنه سبحانه يحب من عباده أن يؤمنوا به وبرسله ولكن اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره ووفقه له وخذل بعضهم فلم يعنه ولم يوفقه فلم تحصل مصلحة الأمر منهم وحصلت من الأمر بالذبح.
● فصل ●
وأما الكتابة فالكونية كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} وقوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} والشرعية الأمرية كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فالأولى كتابة بمعنى القدر والثانية كتابة بمعنى الأمر.
فصل: والأمر الكوني كقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} وقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} وقوله: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} فهذا أمر تقدير كوني لا أمر ديني شرعي فإن الله لا يأمر بالفحشاء والمعنى قضينا ذلك وقدرناه وقالت طائفة بل هو أمر ديني والمعنى أمرناهم بالطاعة فخالفونا وفسقوا والقول الأول أرجح لوجوده، أحدها أن الإضمار على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا إذا لم يكن تصحيح الكلام بدونه، الثاني أن ذلك يستلزم إضمارين أحدهما أمرناهم بطاعتنا الثاني فخالفونا أو عصونا ونحو ذلك، الثالث أن ما بعد الفاء في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه كقولك أمرته ففعل وأمرته فقام وأمرته فركب لا يفهم المخاطب غير هذا، الرابع أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور ومن المعلوم أن أمره بالطاعة والتوحيد لا يصلح أن يكون سبب الهلاك بل هو سبب للنجاة والفوز فإن قيل أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك قيل هذا يبطل بالوجه الخامس وهو أن هذا الأمر لا يختص بالمترفين بل هو سبحانه يأمر بطاعته واتّباع رسله المترفين وغيرهم فلا يصح تخصيص الأمر بالطاعة بالمترفين يوضحه، الوجه السادس أن الأمر لو كان بالطاعة لكان هو نفس إرسال رسله إليهم ومعلوم أنه لا يحسن أن يقال أرسلنا رسلنا إلى مترفيها ففسقوا فيها فإن الإرسال لو كان إلى المترفين لقال من عداهم نحن لم يرسل إلينا، السابع أن إرادة الله سبحانه لإهلاك القرية إنما يكون بعد إرسال الرسل إليهم وتكذيبهم وإلا فقبل ذلك هو لا يريد إهلاكهم لأنهم معذورون بغفلتهم وعدم بلوغ الرسالة إليهم قال تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} فإذا أرسل الرسل فكذبوهم أراد إهلاكها فأمر رؤسائها ومترفيها أمرا كونيا قدريا لا شرعيا دينيا بالفسق في القرية فاجتمع أهلها على تكذيبهم وفسق رؤسائهم فحينئذ جاءها أمر الله وحق عليها قوله بالإهلاك والمقصود ذكر الأمر الكوني والديني ومن الديني قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} وقوله: {نَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وهو كثير
● فصل ●
وأما الإذن الكوني فكقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بمشيئته وقدره وأما الديني فكقوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} أي بأمره ورضاه وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}.
● فصل ●
وأما الجعل الكوني فكقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} وقوله: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} وهو كثير وأما الجعل الديني فكقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} أي ما شرع ذلك ولا أمر به وإلا فهو مخلوق له واقع بقدره ومشيئته وأما قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} فهذا يتناول الجعلين فإنها جعلها كذلك بقدره وشرعه وليس هذا استعمالا للمشترك في معنييه بل إطلاق اللفظ وإرادة القدر المشترك بين معنييه فتأمله.
● فصل ●
وأما الكلمات الكونية فكقوله: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بكلمات ا لله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق" فهذه كلماته الكونية التي يخلق بها ويكون ولو كانت الكلمات الدينية هي التي يأمر بها وينهى لكانت مما يجاوزهن الفجار والكفار وأما الديني فكقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} والمراد به القرآن وقوله صلى الله عليه وسلم في النساء واستحللتم فروجهن بكلمة الله أي بإباحته ودينه وقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقد اجتمع النوعان في قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} فكتبه كلماته التي يأمر بها وينهى ويحل ويحرم وكلماته التي يخلق بها ويكون فأخبر أنها ليست جهمية تنكر كلمات دينه وكلمات تكوينه وتجعلها خلقا من جملة مخلوقاته.
● فصل ●
وأما البعث الكوني فكقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} وقوله: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} وأما البعث الديني فكقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}.
● فصل ●
وأما الإرسال الكوني فكقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} وأما الديني فكقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً}.
● فصل ●
وأما التحريم الكوني فكقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} وقوله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} وأما التحريم الديني فكقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} و{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}.
● فصل ●
وأما الإيتاء الكوني فكقوله: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} وقوله: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} وأما الإيتاء الديني فكقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} وأما قوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} فهذا يتناول النوعين فإنه يؤتيها من يشاء أمرا ودينا وتوفيقا وإلهاما.
● فصل ●
وأنبياؤه ورسله وأتباعهم حظهم من هذه الأمور الديني منها وأعداؤه واقفون مع القدر الكوني فحيث ما مال القدر مالوا معه فدينهم دين القدر ودين الرسل وأتباعهم دين الأمر فهم يدينون بأمره ويؤمنون بقدره وخصماء الله يعصون أمره ويحتجون بقدره لا يقولون نحن واقفون مع مراد الله نعم مع مراده الديني أو الكوني ولا ينفعكم وقوفكم مع المراد الكوني ولا يكون ذلكم عذرا لكم عنده إذ لو عذر بذلك لم يذم أحدا من خلقه ولم يعاقبه ولم يكن في خلقه عاص ولا كافر ومن زعم ذلك فقد كفر بالله وكتبه كلها وجميع رسله وبالله التوفيق.
● [ الباب الموفي ثلاثين ] ●
● الباب الموفي ثلاثين: في ذكر الفطرة الأولى ومعناها واختلاف الناس في المراد بها وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال.
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها" ثم قرأ أبو هريرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} وفي لفظ آخر: "ما من مولود إلا يولد على هذه الملة" وقد اختلف في معنى هذه الفطرة والمراد بها فقال القاضي أبو يعلي في معنى الفطرة: "ها هنا روايتان عن أحمد أحدهما الإقرار بمعرفة الله تعالى وهو العهد الذي أخذه الله عليهم في أصلاب آبائهم حتى مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعا ومدبرا وإن سماه بغير اسمه قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول" قال وليس الفطرة هنا الإسلام لوجهين أحدهما أن معنى الفطرة ابتداء الخلقة ومنه قوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي مبتدئها وإذ كانت الفطرة هي الابتداء وجب أن تكون تلك هي التي وقعت لأول الخليقة وجرت في فطرة المعقول وهو استخراجهم ذرية لأن تلك حالة ابتدائهم ولأنها لو كانت الفطرة هنا الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين أن لا يرثهما ولا يرثانه ما دام طفلا لأنه مسلم واختلاف الدين يمنع الإرث ولوجب أن لا يصح استرقاقه ولا يحكم بإسلامه بإسلام أبيه لأنه مسلم" قال وهذا تأويل ابن قتيبة وذكره ابن بطة في الإبانة قال وليس كل من تثبت له المعرفة حكم بإسلامه كالبالغين من الكفار فإن المعرفة حاصلة وليسوا بمسلمين قال وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل وفي رواية الميموني فقال الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها فقال له الميموني الفطرة الدين قال نعم قال القاضي وأراد أحمد بالدين المعرفة التي ذكرناها" قال والرواية الثانية: "الفطرة هنا ابتداء خلقه في بطن أمه لأن حمله على العهد الذي أخذه عليهم وهو الإقرار بمعرفته حمل للفطرة على الإسلام لأن الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان والمؤمن مسلم ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين أن لا يرثانه ولا يرثهما قال ولأن ذلك يمنع أن يكون الكفر خلقا لله وأصول أهل السنة بخلافه قال وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية على بن سعيد وقد سأله عن قوله كل مولود يولد على الفطرة فقال على الشقاوة والسعادة ولذلك نقل محمد بن يحيى الكحال أنه سأله فقال هي التي فطر الناس عليها شقي أو سعيد وكذلك نقل جبيل عنه قال الفطرة التي فطر الله عليها العباد من الشقاوة والسعادة قال وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد بالفطرة ها هنا ابتداء خلقه في بطن أمه" قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية أحمد: "لم يذكر العهد الأول وإنما قال الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها وهي الدين وقال في غير موضع أن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه واستدل بهذا الحديث فدل على أنه فسر الحديث بأنه يولد على فطرة الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث ولو لم تكن الفطرة عنده الإسلام لما صح استدلاله بالحديث" وقوله في موضع آخر: "يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة لا ينافي ذلك فإن الله سبحانه قدر السعادة والشقاوة وكتبهما وقدر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها كفعل الأبوين فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما قدره الله أنه يفعل بالمولود والمولود ولد على الفطرة سليما وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيرها الأبوان كما قدر سبحانه ذلك وكتبه كما مثل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء فبين أن البهيمة تولد سليمة ثم يجدعها الإنسان وذلك بقضاء الله وقدره فكذلك المولود يولد على الفطرة سليما ثم يفسده أبواه وذلك أيضا بقضاء الله وقدره وإنما قال أحمد وغيره من الأئمة على ما فطر عليه من شقاوة أو سعادة لأن القدرية يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس بقضاء الله وقدره بل مما ابتدأ الناس إحداثه ولهذا قالوا لمالك بن أنس أن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث فقال احتجوا عليهم بآخره وهو قول الله أعلم بما كانوا عاملين فبين الإمام أحمد وغيره أنه لا حجة فيه للقدرية فإنهم لا يقولون أن نفس الأبوين خلقا تهويده وتنصيره بل هو تهود وتنصر باختياره ولكن كانا سببا في حصول ذلك بالتعليم والتلقين فإذا أضيف إليهما هذا الاعتبار فلأن يضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى لأنه سبحانه وإن كان خلقه مولودا على الفطرة سليما فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره وعلم ذلك كما في الحديث الصحيح "أن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا" فقوله طبع يوم طبع أي قدر وقضى في الكتاب أنه يكفر لا أن كفره كان موجودا قبل أن يولد ولا في حال ولادته فإنه مولود على الفطرة السليمة وعلى أنه بعد ذلك يتغير ويكفر من ظن أن الطبع على قلبه وهو الطبع المذكور على قلب الكفار فهو غالط فإن ذلك لا يقال فيه طبع يوم طبع إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره وقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك وكذلك في حديث الأسود بن سريع الذي رواه احمد وغيره قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حملكم على قتل الذرية قالوا يا رسول الله أليسوا أولاد المشركين قال أوليس خياركم أولاد المشركين ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه" فخطبته لهم بهذا الحديث عقيب نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين وقوله لهم أو ليس خياركم أولاد المشركين نص أنه أراد بهم ولدوا غير كفار ثم الكفر طرأ بعد ذلك ولو أراد أن المولود حين يولد يكون إما مسلما وإما كافرا على ما سبق له به القدر لم يكن فيما ذكر حجة على ما قصد من نهيه عن قتل أولاد المشركين وقد ظن بعضهم أن معنى قوله أو ليس خياركم أولاد المشركين أنه قد يكون في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا فيكون النهي راجعا إلى هذا المعنى من التجويز وليس هذا معنى الحديث لكن معناه أن خياركم هم السابقون الأولون وهؤلاء من أولاد المشركين فإن آباءهم كانوا كفارا ثم أن البنين أسلموا بعد ذلك فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كان مؤمنا فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه وهو سبحانه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
● فصل ●
وهذا الحديث قد روي بألفاظ تفسر بعضها بعضا ففي الصحيحين واللفظ للبخاري عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت صغيرا قال الله أعلم بما كانوا عاملين" وفي الصحيح قال الزهري: "نصلي على مولود يتوفى وإن كان من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل صارخا ولا نصلي على من لم يستهل من أجل أنه سقط" فإن أبا هريرة كان يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}" وفي الصحيحين من رواية الأعمش: "ما من مولود إلا وهو على الملة" وفي رواية ابن معاوية عنه: "إلا على هذه الملة" حتى يعرب عنه لسانه فهذا صريح بأنه يولد على ملة الإسلام كما فسره ابن شهاب راوي الحديث واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك قال ابن عبد البر وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزي أن يعتقه وهو رضيع قال نعم لأنه ولد على الفطرة وقال أبو عمر وقد ذكر النزاع في تفسير الحديث وقال آخرون الفطرة ها هنا الإسلام قالوا وهو المعروف عند عامة السلف أهل التأويل قد أجمعوا في تأويل قول الله عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قالوا فطرة الله دين الله الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث اقرؤا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قوله عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قالوا: "فطرة الله دين الله الإسلام لا تبديل لخلق الله قالوا لدين الله" واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن عابد الأزدي عن عياض بن حماد المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "للناس يوما ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيها فجعلوا ما أعطاهم الله حراما وحلالا" الحديث قال وكذلك روى بكر بن مهاجر عن ثور بن يزيد بإسناده مثله في هذا الحديث حنفاء مسلمين قال أبو عمر روى هذا الحديث قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عياض ولم يسمعه قتادة من مطرف ولكن قال حدثني ثلاثة عقبة بن عبد الغافر ويزيد بن عبد الله بن الشخير والعلاء بن زياد كلهم يقول حدثني مطرف عن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه: "وأنى خلقت عبادي حنفاء كلهم" لم يقل مسلمين وكذلك رواه الحسن عن مطرف ورواه ابن إسحاق عمن لا يتهم عن قتادة بإسناده قال فيه: "وأنى خلقت عبادي حنفاء كلهم" ولم يقل مسلمين قال فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه لأنه ذكر مسلمين في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث وأسقطه من رواية قتادة وقصر فيه عن قوله مسلمين وزاده ثور بإسناده فالله أعلم قال والحنيف في كلام العرب المستقيم المخلص ولا استقامة أكثر من الإسلام قال وقد روي عن الحسن الحنيفية: "حج البيت" وهذا يدل أنه أراد الإسلام وكذلك روى عن الضحاك والسدي قال: "حنفاء حجاجا" وعن مجاهد: "حنفاء متبعين" قال وهذا كله يدل على أن الحنيفية الإسلام قال وقال أكثر العلماء الحنيف المخلص وقال الله عز وجل: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} وقال تعالى: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} وقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} وقال الشاعر وهو الراعي:
أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا حق الزكاة منزلا تنزيلا
قال فهذا وصف الحنيفية بالإسلام وهو أمر واضح لا خفاء به قال ومما احتج به من ذهب في هذا الحديث إلى أن الفطرة في هذا الحديث الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة" ويروى "عشر من الفطرة" قال شيخنا: "والدلائل على ذلك كثيرة ولو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام لما سألوا عقيب ذلك أرأيت من يموت من أطفال المشركين لأنه لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لما سألوه والعلم القديم وما يجرى مجراه لا يتغير" وقوله فأبواه يهودانه بين فيه أنهم يغيرون الفطرة التي فطر عليها وأيضا فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيها ثم تجدع بعد ذلك فعلم أن التغير وأرد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها وأيضا فان الحديث مطابق للقرآن كقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وهذا يعم جميع الناس فعلم أن الله سبحانه فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة وأيضا فإنه أضاف الفطرة إليه إضافة مدح لا إضافة ذم فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة كدين الله وبيته وناقته وأيضا فإنه قال فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها وأيضا فإن هذا تفسير السلف قال ابن جرير: "يقول فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك الله يا محمد بطاعته وهي الدين حنيفا" يقول مستقيما لدينه وطاعته فطرة الله يقول صنعة الله خلق الناس عليها ونصب فطرة على المصدر معنى قوله فأقم وجهك للدين حنيفا لأن المعنى فطر الله الناس على ذلك فطرة قال وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ثم روى عن ابن زيد قال: "فطرة الله التي فطر الناس عليها قال الإسلام منذ خلقهم الله من آدم جميعا يقرون بذلك" وعن مجاهد: "فطرة الله قال الدين الإسلام" ثم روى عن يزيد بن أبي مريم قال عمر لمعاذ بن جبل فقال ما قوام هذه الأمة قال معاذ ثلاث وهن المنجيات الإخلاص وهو الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها والصلاة وهي الملة والطاعة وهي العصمة فقال عمر صدقت وقوله لا تبديل لخلق الله يقول لا تغيير لدين الله أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: "لا تبديل لخلق الله أي لدين الله" ثم ذكر أن مجاهدا أرسل إلى عكرمة يسأله عن قوله لا تبديل لخلق الله قال: "هو الخصا" فقال مجاهد: "أخطأ لا تبديل لخلق الله إنما هو الدين" ثم قال: "لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم" وروى عن عكرمة: "لا تبديل الخلق الله قال لدين الله" هو قول سعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وابن زيد وعن ابن عباس وعكرمة ومجاهد: "هو الخصا" ولا منافاة بين القولين كما قال تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} فتغيير ما فطر الله عباده من الدين تغيير لخلقه والخصا وقطع آذان الأنعام تغيير لخلقه أيضا ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما بالآخر فأولئك يغيرون الشريعة وهؤلاء يغيرون الخلقة فذلك يغير ما خلقت عليه نفسه وروحه وهذا يغير ما خلق عليه بدنه.
● فصل ●
ولما صار القدرية يحتجون بهذا الحديث على قولهم صار الناس يتأولونه على تأويلات يخرجونه بها عن مقتضاه فقالت القدرية كل مولود يولد على الإسلام والله سبحانه لا يضل أحدا وإنما أبواه يضلانه قال لهم أهل السنة أنتم لا تقولون بأول الحديث ولا بآخره أما أوله فإنه لم يولد أحد عندكم على الإسلام أصلا ولا جعل الله أحدا مسلما ولا كافرا عندكم وهذا أحدث لنفسه الكفر وهذا أحدث لنفسه الإسلام والله لم يخلق واحدا منهما ولكن دعاهما إلى الإسلام وأزاح عللهما وأعطاهما قدرة مماثلة فهما يصلح للضدين ولم يخص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان فإن ذلك عندكم غير مقدور له ولو كان مقدورا لكان منع الكافر منه ظلما هذا قول عامة القدرية وإن كان أبو الحسين يقول أنه خص المؤمن بداعي الإيمان ويقول عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان وهذا في الحقيقة موافق لقول أهل السنة قالوا فأنتم قلتم إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل ويستحيل أن تكون المعرفة عندكم ضرورة أو تكون من فعل الله وأما كونكم لا تقولون بآخره فهو أنه ينسب فيه التهويد والتنصير إلى الأبوين وعندكم أن المولود هو الذي أحدث لنفسه التهويد والتنصير دون الأبوين والأبوان لا قدرة لهما على ذلك البتة وأيضا فقوله الله أعلم بما كانوا عاملين دليل على أن الله يعلم ما يصيرون إليه بعد ولادتهم على الفطرة هل يبقون عليها فيكونون مؤمنين أو يغيرون فيصيرون كفارا فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاة القدرية واتفق السلف على تكفيرهم بإنكاره فالذي استدللتم به من الحديث على قولكم الباطل وهو قوله فأبواه يهودانه وينصرانه لا حجة لكم بل هو حجة عليكم فغير الله لا يقدر على جعل الهدى أو الضلال في قلب أحد بل المراد بالحديث دعوة الأبوين إلى ذلك وتربيتهما له وتربيتهما على ذلك مما يفعله المعلم والمربي وخص الأبوين بالذكر على الغالب أنه جعل أبوان وإلا فقد يقع من أحدهما أو من غيرهما.
● فصل ●
قال أبو عمر بن عبد البر اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافا كثيرا وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة فسئل عنه ابن المبارك فقال: "تفسيره آخر الحديث وهو قوله الله أعلم بما كانوا عاملين" هكذا ذكر أبو عبيد عن ابن المبارك لم يزد شيئا وذكر أنه سأل محمد بن الحسن عن تأويل هذا الحديث فقال: "كان هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد" هذا ما ذكره أبو عبيده قال أبو عمر أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحو ذلك وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح موعب في أمر الأطفال ولكنها تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر وإيمان أو جنة ونار ما لم يبلغوا العمل قال وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمدا حاد عن الجواب فيه إما لإشكاله وإما لجهله به أو لما شاء الله وأما قوله أن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد فلا أدري ما هذا فإن كان أراد أن ذلك منسوخ فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في أخبار الله ورسوله إذ المخبر بشيء كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخل رجوعه من تكذيبه لنفسه أو غلطه فيما أخبر به أو نسيانه وقد جل الله عن ذلك وعصم رسوله منه وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد وقول محمد بن الحسن أن هذا كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ليس كما قال أن في حديث الأسود الدؤلي بن سريع ما يتبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد ثم روى بإسناده عن الحسن عن الأسود بن سريع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان فقال رجل أو ليس إنما هم أولاد المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليس خياركم أولاد المشركين إنه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه ويهوده أبواه أو ينصرانه" قال وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة منهم أبو بكر المزني والعلاء بن زياد والمسري بن يحيى وقد روى عن الأحنف عن الأسود بن سريع قال وهو حديث بصري صحيح قال وروى عوف الأعرابي عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة فناداه الناس يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين" قال شيخنا: "أما ما ذكره أبو عمر عن مالك وابن المبارك فيمكن أن يقال أن المقصود أن آخر الحديث يبين أن الأول قد سبق في علم الله يعملون إذا بلغوا أو أن منهم من يؤمن فيدخل الجنة ومنهم من يكفر فيدخل النار" فلا يحتج بقوله كل مولود يولد على الفطرة على نفي القدر كما احتجت القدرية به وعلى أن أطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة فيكون مقصود مالك وابن المبارك أن حكم الأطفال على ما في آخر الحديث وأما قول محمد فإنه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع أبويه في الدين في أحكام الدنيا فيحكم له بحكم الكفر في أنه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يرثه المسلمون ويجوز استرقاقهم فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين حتى تعرب عنهم ألسنتهم وهذا حق ولكن ظن أن الحديث اقتضى الحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين فقال هذا منسوخ كان قبل الجهاد لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء والأطفال والمؤمن لا يسترق ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية أمر ما زال مشروعا وما زال الأطفال تبعا لأبويهم في الأمور الدنيوية والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام وإنما قصد بيان ما ولد عليه الأطفال من الفطرة.
● فصل ●
ومما ينبغي أن يعلم أنه إذا قيل أنه ولد على الفطرة أو على الإسلام أو على هذه الملة أو خلق حنيفا فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده فإنه الله يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} ولكن فطرته موجبة مقتضية لدين الإسلام لقروبه ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له وموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت من المعارض وليس المراد أيضا مجرد قبول الفطرة لذلك فإن هذا القبول تغير بتهويد الأبوين وتنصيرهما بحيث يخرجان الفطرة عن قبولها وإن سعيا بين بنيهما ودعائهما في امتناع حصول المقبول أيضا ليس هو الإسلام وليس هو هذه الملة وليس هو الحنيفية وأيضا فإنه شبه تغيير الفطرة بجدع البهيمة الجمعاء ومعلوم أنهم لم يغيروا قبوله ولو تغير القبول وزال لم تقم عليه الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب بل المراد أن كل مولود فإنه يولد على محبته لفاطره وإقراره له بربوبيته وادعائه له بالعبودية فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة فيشتهي اللبن الذي يناسبه ويغذيه وهذا من قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} وقوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا فشيئا بحسب حاجته ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة فهكذا ما ولد عليه من الفطرة ولهذا شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في التأويل للرؤيا ولما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء اللبن والخمر أخذ اللبن فقيل له أخذت الفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك فمناسبة اللبن لبدنه وصلاحه عليه دون غيره لمناسبة الفطرة لقلبه وصلاحه بها دون غيرها.
كتاب : شفاء العليل في مسائل
القضاء والقدر والحكمة والتعليل
تأليف : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
منتدى ميراث الرسول - البوابة