توتة- Admin
- عدد المساهمات : 2017
تاريخ التسجيل : 13/02/2014
من طرف توتة الأحد 27 فبراير - 19:19
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الإسلامية
شفاء العليل في مسائل
القضاء والقدر والحكمة والتعليل
● [ تابع الباب العشرون ] ●
● فصل ●
قال السني: فليس لك أيها القدري أن تحتج بالآية التي نحن فيها لمذهبك لوجوه أحدها أنك تقول فعل العبد حسنة كان أو سيئة هو منه لا من الله بل الله سبحانه قد أعطى كل واحد من الاستطاعة ما يفعل به الحسنات والسيئات ولكن هذا أحدث من عند نفسه إرادة فعل بها الحسنات وهذا أحدث إرادة فعل بها السيئات وليست واحدة من الإرادتين من إحداث الرب سبحانه البتة ولا أوجبتها مشيئته والآية قد فرقت بين الحسنة والسيئة وأنتم لا تفرقون بينهما فإن الله عندكم لم يشأ هذا ولا هذا قال القدري: إضافة إلى نفس العبد لكونه هو الذي أحدثها وأوجدها وأضاف الحسنة إليه سبحانه لكونه هو الذي أمر بها وشرعها قال السني: الله سبحانه أضاف إلى العبد ما أصابه من سيئة وأضاف إلى نفسه ما أصاب العبد من حسنة ومعلوم أن الذي أصاب العبد هو الذي قام به والأمر لم يقم بالعبد وإنما قام به المأمور وهو الذي أصابه فالذي أصابه لا تصح إضافته إلى الرب عندكم والمضاف إلى الرب لم يقم بالعبد فعلم أن الذي أصابه من هذا وهذا أمر قائم به فلو كان المراد به الأفعال الاختيارية من الطاعات والمعاصي لاستوت الإضافة ولم يصح الفرق وإن افترقا في كون أحدهما مأمورا به والآخر منهيا عنه على أن النهي أيضا من الله كما أن الأمر منه فلو كانت الإضافة لأجل الأمر لاستوى المأمور والمنهي في الإضافة لأن هذا مطلوب إيجاده وهذا مطلوب إعدامه قال القدري: أنا أجوز تعلق الطاعة والمعصية بمشيئة الرب سبحانه وإحداثه على وجه الجزاء لا على سبيل الابتداء وذلك أن الله سبحانه يعاقب عبده بما شاء ويثيبه فكما يعاقبه بخلق الجزاء الذي يسوءه وخلق الثواب الذي يسره ولذلك يحسن أن يعاقبه بخلق المعصية وخلق الطاعة فإن هذا يكون عدلا منه وأما أن يخلق فيه الكفر والمعصية ابتداء بلا سبب فمعاذ الله من ذلك قال السني: هذا توسط حسن جدا لا يأباه العقل ولا الشرع ولكن من ابتدأ الأول وليس هو عندك مقدورا لله ولا واقعا بمشيئته فقد أثبت في ملكه ما لا يقدر عليه وأدخلت فيه ما لا يشاء ونقضت أصلك كله فإنك أصلت أن فعل العبد الاختياري قدرة العبد عليه واختياره له ومشيئته تمنع قدرة الرب عليه ومشيئته له وهذا الأصل لا فرق فيه بين الابتدائي والجزائي قال القدري: فالقرآن قد فرق بين النوعين وجعل الكفر والفسوق الثاني جزاء على الأول فعلم أن الأول من العبد قطعا وإلا لم يستقم جعل أحدهما عقوبة على الآخر وقد صرح بذلك في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} فأضاف نقض الميثاق إليهم وتقسية القلوب إليه فالأول سبب منهم والثاني جزاء منه سبحانه قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} فأضاف عدم الإيمان أولا إليهم إذ هو السبب وتقليب القلوب وتركهم في طغيانهم هو الجزاء ومثله قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} والآيات التي سمعتموها آنفا إنما تدل على هذا قال السني: نعم هذا حق لكن ليس فيه إخراج السبب عن كونه مقدورا للرب سبحانه واقعا بمشيئته ولو شاء لحال بين العبد وبينه ووفقه لضده فهي البقية التي بقيت عليك من القدر كما أن إنكار إثبات الأسباب واقتضائها لمسبباتها وترتبها عليها هي البقية التي بقيت على الجبري في المسألة أيضا وكلاكما مصيب من وجه مخطئ من وجه ولو تخلص كل منكما من البقية التي بقيت عليه لوجدتما روح الوفاق واصطلحتما على الحق وبالله التوفيق قال القدري: فما تقول أنت أيها السني في العقل الأول إذا لم يكن جزاء فما وجهه وأنت ممن يقول بالحكمة والتعليل وتنزه الرب سبحانه عن الظلم الذي هو ظلم لا ما يقوله الجبري أنه الجمع بين النقيضين قال السني: لا يلزمني في هذ ا المقام بيان ذلك فإني لم أنتصب له إنما انتصبت لإبطال احتجاجك بالآية لمذهبك الباطل وقد وفيت به ولله في ذلك حكم وغايات محمودة لا تبلغها عقول العقلاء ومباحث الأذكياء فالله سبحانه إنما يضع فضله وتوفيقه وإمداده في المحل الذي يصلح له وما لا يصلح له من المحال يدعه غفلا فارغا من الهدى والتوفيق فيجري مع طبعه الذي خلق عليه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} قال القدري: فإذا كان الله سبحانه قد أحدث فيهم تلك الإرادة والمشيئة المستلزمة لوجود الفعل كان ذلك إيجادا منه سبحانه لذلك فيهم كما أوجد الهدى والإيمان في أهله قال السني هذا معترك النزال وتفرق طرق العالم والله سبحانه أعطى العبد مشيئة وقدرة وإرادة تصلح لهذا ولهذا ثم أمد أهل الفضل بأمور وجودية زائدة على ذلك المشترك أوجب له الهداية والإيمان وأمسك ذلك الإمداد عمن علم أنه لا يصلح له ولا يليق به فانصرفت قوى إرادته ومشيئته إلى ضده اختيارا منه ومحبة لا كرها واضطرارا قال القدري: فهل كان يمكنه إرادة ما لم يعن عليه ولم يوفق له بإمداد زائد على خلق الإرادة قال السني: إن أردت بالإمكان أنه يمكنه فعله لو أراده فنعم هو ممكن بهذا الاعتبار مقدور له وإن أردت به أنه ممكن وقوعه بدون مشيئة الرب وإذنه فليس يمكن فإنه ما شاء الله كان ووجب وجوده وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده قال القدري: فقد سلمت حينئذ أنه غير ممكن للعبد إذا لم يشأ الله منه أن يفعله فصار غير مقدور للعبد فقد عوقب على ترك ما لا يقدر على فعله قال السني: عدم إرادة الله سبحانه للعبد ومشيئته أن يفعل لا يوجب كون الفعل غير مقدور له فإنه سبحانه لا يريد من نفسه أن يعينه عليه مع كونه أقدره عليه ولا يلزم من إقداره عليه وقوعه حتى توجد منه إعانة أخرى فانتفاء تلك الإعانة لا يخرج الفعل عن كونه مقدورا للعبد فإنه قد يكون قادرا على الفعل لكن يتركه كسلا وتهاونا وإيثارا لفعل ضده فلا يصرف الله عنه ترك الواقع ولا يوجب عدم صرفه كونه عاجزا عن الفعل فإن الله سبحانه يعلم أنه قادر عليه بالقدرة التي أقدره بها ويعلم أنه لا يريده مع كونه قادرا عليه فهو سبحانه مريد له ومنه الفعل ولا يريد من نفسه إعانته وتوفيقه وقطع هذه الإعانة والتوفيق لا يخرج الفعل عن كونه مقدورا له وإن جعلته غير مراد وسر المسألة الفرق بين تعلق الإرادة بفعل العبد وتعلقها بفعله هو سبحانه بعده فمن لم يحط معرفة بهذا الفرق لم يكشف له حجاب المسألة قال الجبري: أما أن تقول أن الله علم أن العبد لا يفعل أو لم يعلم ذلك والثاني محال وإذا كان قد علم أنه لا يفعله صار الفعل ممتنعا قطعا إذ لو فعله لا نقلب العلم القديم جهلا قال السني: هذه حجة باطلة من وجوه أحدهما أن هذا بعينه يقال فيما علم الله أنه لا يفعله وهو مقدور له فإنه لا ينفع البتة مع كونه مقدورا له فما كان جوابك عن ذلك فهو جوابنا لك وثانيها أن الله سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه فهو يعلم أنه لا يفعله لعدم إرادته له لا لعدم قدرته عليه وثالثها أن العلم كاشف لا موجب وإنما الموجب مشيئة الرب والعلم يكشف حقائق المعلومات، عدنا إلى الكلام على الآية التي احتج بها القدري وبيان أنه لا حجة فيها من ثلاثة أوجه أحدها أنه قال ما أصابك ولم يقل ما أصبت الثاني أن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والمصيبة الثالث أنه قال: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فالإنسان هو فاعل السيئات ويستحق علها العقاب والله هو المنعم عليه بالحسنات عملا وجزاء والعادل فيه بالسيئات قضاء وجزاء ولو كان العمل الصالح من نفس العبد كما كان السيئ من نفسه لكان الأمران كلاهما من نفسه والله سبحانه قد فرق بين النوعين وفي الحديث الصحيح الإلهي: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
● فصل ●
قال الجبري: أول الآية محكم وهو قوله كل من عند الله وآخرها متشابه وهو قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال القدري: آخرها محكم وأولها متشابه قال السني: أخطأتما جميعا بل كلاهما محكم مبين وإنما أتيتما من قلة الفهم في القرآن وتدبره فليس بين اللفظين تناقض لا في المعنى ولا في العبارة فإنه سبحانه وتعالى ذ كر عن هؤلاء الناكلين عن الجهاد أنهم إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا لرسوله صلى الله عليه وسلم هذه من عندك أي بسبب ما أمرتنا به من دينك وتركنا ما كنا عليه أصابتنا هذه السيئات لأنك أمرتنا بما أوجبها فالسيئات ههنا هي المصائب والأعمال التي ظنوا أنها سبب المصائب هي التي أمروا بها وقولهم في السيئة التي تصيبهم هذه من عندك تتناول مصائب الجهاد التي حصلت لهم من الهزيمة والجراح وقتل من قتل منهم وتتناول مصائب الرزق على وجه التطير والتشاؤم أي أصابنا هذا بسبب دينك كما قال تعالى عن قوم فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} أي إذا جاءهم ما يسرون به ويتنعمون به من النعم قالوا نحن أهل ذلك ومستحقوه وإن أصابهم ما يسوءهم قالوا هذا بسبب ما جاء به موسى وقال أهل القرية للمرسلين إنا تطيرنا بكم وقال قوم صالح له عليه السلام اطيرنا بك وبمن معك وكانوا يقولون لما ينالهم من سبب الحرب هذا منك لأنك أمرتنا بالأعمال الموجبة له وللمصائب الحاصلة من غير جهة العدو وهذا أيضا منك أي بسبب مفارقتنا لديننا ودين آبائنا والدخول في طاعتك وهذه حال كل من جعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم سببا لشر أصابه من السماء أو من الأرض وهؤلاء كثير في الناس وهم الأقلون عند الله تعالى قدرا الأرذلون عنده ومعلوم أنهم لم يقولوا هذه من عندك بمعنى أحدثتها ومن فهم هذا يتبين له أن قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} لا يناقض قوله تعالى: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} بل هذا تحقيق له فإنه سبحانه بين أن النعم والمصائب كلها من عنده فهو الخالق لها المقدر لها المبتلي خلقه بها فهي من عنده ليس بعضها من عنده وبعضها خلقا لغيره فكيف يضاف بعضها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبعضها إلى الله تعالى ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدثها فلم يبق إلا ظنهم أنه سبب لحصولها إما في الجملة كحال أهل التطير وإما في الواقعة المعينة كحال اللائمين له في الجهاد فأبطل الله سبحانه وذلك الوهم الكاذب والظن الباطل وبين أن ما جاء به لا يوجب الشر البتة بل الخير كله فيما جاء صلى الله عليه وسلم به والشر بسبب أعمالهم وذنوبهم كما قال الرسل عليهم السلام لأهل القرية طائركم معكم ولا يناقض هذا قول صالح عليه السلام لقومه: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} وقوله تعالى عن قوم فرعون: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} بل هاتان النسبتان نظير هاتين النسبتين في هذه الآية وهي نسبة السيئة إلى نفس العبد ونسبة الحسنة والسيئة إلى أنهما من عند الله عز وجل فتأمل اتفاق القرآن وتصديق بعضه بعضا فحيث جعل الطائر معهم والسيئة من نفس العبد فهو على وجهة السبب والموجب أي الشر والشؤم الذي أصابكم هو منكم ومهما فإن أسبابه قائمة بكم كما تقول شرك منك وشؤمك فيك يراد به العمل وطائرك معك وحيث جعل ذلك كله من عنده فهو لأنه الخالق له المجازي به عدلا وحكمة فالطائر يراد به العمل وجزاءه فالمضاف إلى العبد العمل والمضاف إلى الرب الجزاء فطائركم معكم طائر العمل وطائركم عند الله الجزاء فما جاءت به الرسل ليس سببا لشيء من المصائب ولا تكون طاعة الله ورسوله سببا لمصيبة قط بل طاعة الله ورسوله لا توجب إلا خيرا في الدنيا والآخرة ولكن قد يصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم وتقصيرهم في طاعة الله ورسوله كما لحقهم يوم أحد ويوم حنين وكذلك ما امتحنوا به من الضراء وأذى الكفار لهم ليس هو بسبب نفس إيمانهم ولا هو موجبه وإنما امتحنوا به ليخلص ما فيهم من الشر فامتحنوا بذلك كما يمتحن الذهب بالنار ليخلص من غشه والنفوس فيها ما هو من مقتضى طبعها فالامتحان يمحص المؤمن من ذلك الذي هو من موجبات طبعه كما قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وقال: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} فطاعة الله ورسوله لا تجلب إلا خيرا ومعصيته لا تجلب إلا شرا ولهذا قال سبحانه: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} فإنهم لو فقهوا الحديث لعلموا أنه ليس في الحديث الذي أنزله الله على رسوله ما يوجب شرا البتة ولعلموا أنه سبب كل خير ولو فقهوا لعلموا أن العقول والفطر تشهد بأن مصالح المعاش والمعاد متعلقة بما جاء به الرسول فلو فقهوا القرآن علموا أنه أمرهم بكل خير ونهاهم عن كل شر وهذا مما يبين أن ما أمر الله به يعلم حسنه بالعقل وأنه كله مصلحة ورحمة ومنفعة وإحسان بخلاف ما يقوله كثير من أهل الكلام الباطل أنه سبحانه يأمر العباد بما لا مصلحة لهم فيه بل يأمرهم بما فيه مضرة لهم وقول هؤلاء تصديق وتقرير لقول المتطيرين بالرسل.
● فصل ●
ومما يوضح الأمر في ذلك أنه سبحانه لما قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} عقب ذلك بقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} وذلك يتضمن أشياء منها تنبيه أمته على أن رسوله الذي شهد له بالرسالة إذا أصابه ما يكره فمن نفسه فما الظن بغيره ومنها أن حجة الله قد قامت عليهم بإرساله فإذا أصابهم سبحانه بما يسوءهم لم يكن ظالما لهم في ذلك لأنه قد أرسل رسوله إليهم يعلمهم بما فيه مصالحهم وما يجلبها لهم وما فيه مضرتهم وما يجلبها لهم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ومنها أنه سبحانه قد شهد له بالرسالة بما أظهره على يديه من الآيات الدالة على صدقه وأنه رسوله حقا فلا يضره جحد هؤلاء الجاهلين الظالمين المتطيرين به لرسالته ومن شهد له رب السماوات والأرض ومنها أنهم أرادوا أن يجعلوا سيئاتهم وعقوباتها حجة على إبطال رسالته فشهد له بالرسالة وأخبر أن شهادته كافيه فكان في ضمن ذلك إبطال قولهم أن المصائب من عند الرسول صلى الله عليه وسلم وإثبات أنها من عند أنفسهم بطريق الأولى ومنها إبطال قول الجهمية المجبرة ومن وافقهم في قولهم إن الله قد يعذب العباد بلا ذنب ومنها إبطال قول القدرية الذين يقولون أن أسباب الحسنات والسيئات ليست من الله بل هي من العبد ومنها ذم من لم يتدبر القرآن ولم يفقهه وإن إعراضه عن تدبره وفقهه يوجب له من الضلال والشقاء بحسب إعراضه ومنها إثبات الأسباب وإبطال قول من ينفيها ولا يرى لها ارتباطا بمسبباتها ومنها أن الخير كله من الله والشر كله من النفس فإن الشر هو الذنوب وعقوبتها والذنوب من النفس وعقوباتها مترتبة عليها والله هو الذي قدر ذلك وقضاه وكل من عنده قضاء وقدرا وإن كانت نفس العبد سببه بخلاف الخير والحسنات فإن سببها مجرد فضل الله ومنه وتوفيقه كما تقدم تقريره ومنها أنه سبحانه لما رد قولهم أن الحسنة من الله والسيئة من رسوله وأبطله بقوله: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} رفع وهم من توهم أن نفسه لا تأثير لها في السيئة ولا هي منها أصلا بقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وخاطبه بهذا تنبيها لغيره كما تقدم ومنها أنه قال في الرد عليهم: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ولم يقل من الله لما جمع بين الحسنات والسيئات والحسنة مضافة إلى الله من كل وجه والسيئة إنما تضاف إليه قضاء وقدرا وخلقا وأنه خالقها كما هو خالق الحسنة فلهذا قال: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهو سبحانه إنما خلقها لحكمة فلا تضاف إليه من جهة كونها سيئة بل من جهة ما تضمنته من الحكمة والعدل والحمد وتضاف إلى النفس كونها سيئة ولما ذكر الحسنة مفردة عن السيئة قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ولم يقل من عند الله فالخير منه وأنه موجب أسمائه وصفاته والشر الذي هو بالنسبة إلى العبد شر من عنده سبحانه فإنه مخلوق له عدلا منه وحكمة ثم قال: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} ولم يقل من عندك لأن النفس طبيعتها ومقتضاها ذلك فهو من نفسها والجميع من عند الله فالسيئة من نفس الإنسان بلا ريب والحسنة من الله بلا ريب وكلاهما من عنده سبحانه قضاء وقدرا وخلقا ففرق بين ما من الله وبين ما من عنده والشر لا يضاف إلى الله إرادة ولا محبة ولا فعلا ولا وصفا ولا اسما فإنه لا يريد إلا الخير ولا يحب إلا الخير ولا يفعل شرا ولا يوصف به ولا يسمى باسمه وسنذكر في باب دخول الشر في القضاء الإلهي وجه نسبته إلى قضائه وقدره إن شاء الله.
● فصل ●
وقد اختلف في كاف الخطاب في قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} هل هي لرسول الله أو هي لكل واحد من الآدميين، فقال ابن عباس في رواية الوالبي عنه: "الحسنة ما فتح الله عليه يوم بدر من الغنيمة والفتح والسيئة ما أصابه يوم أحد أن شج في وجهه وكسرت رباعيته"، وقالت طائفة بل المراد جنس ابن آدم كقوله: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} روى سعيد عن قتادة: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال عقوبة يا ابن آدم بذنبك ورجحت طائفة القول الأول، واحتجوا بقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} قالوا وأيضا فإنه لم يتقدم ذكر الإنسان ولا خطابه وإنما تقدم ذكر الطائفة قالوا ما حكاه الله عنهم فلو كانوا هم المرادين لقال ما أصابهم أو ما أصابكم على طريق الالتفات قالوا وهذا من باب السبب لأنه إذا كان سيد ولد آدم وهكذا حكمه فكيف بغيره ورجحت طائفة القول الآخر، واحتجت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم معصوم لا يصدر عنه ما يوجب أن تصيبه به سيئة قالوا والخطاب وإن كان له في الصورة فالمراد به الأمة كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} قالوا ولما كان أول الآية خطابا له أجرى الخطاب جميعه على وجه واحد فأفرده في الثاني والمراد به الجميع والمعنى وما أصابكم من سيئة فمن أنفسكم فالأول له والثاني لأمته ولهذا لما أفرد إصابة السيئة قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فأخبر أن الهزيمة بذنوبهم وإعجابهم وأن النصر بما أنزله على رسوله وأيده به إذ لم يكن منه من سبب الهزيمة ما كان منه وجمعت طائفة ثالثة بين القولين وقالوا صورة الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد العموم كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} ثم قال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ثم قال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وكقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} قالوا وهذا الخطاب نوعان نوع يختص لفظه به لكن يتناول غيره بطريق الأولى كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ونوع يكون الخطاب له وللأمة فأفرده بالخطاب لكونه هو المواجه بالوحي وهو الأصل فيه والمبلغ للأمة والسفير بينهم وبين الله وهذا معنى قول كثير من المفسرين الخطاب له والمراد غيره ولم يريدوا بذلك أنه لم يخاطب بذلك أصلا ولم يرد به البتة بل المراد أنه لما كان إمام الخلائق ومقدمهم ومتبوعهم أفرد بالخطاب وتبعته الأمة في حكمه كما يقول السلطان لمقدم العساكر أخرج غدا وأنزل بمكان كذا وأحمل على العدو وقت كذا قالوا فقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} خطاب له وجميع الأمة داخلون في ذلك بطريق الأولى بخلاف قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} فإن هذا له خاصة قالوا وهذه الشرطية لا تستلزم الوقوع بل تربط الجزاء بالشرط وأما وقوع الشرط والجزاء فلا يدل عليه فهو مقدر في حقه محقق في غيره والله أعلم، قال القدري: إذا كانت الطاعات والمعاصي مقدرة والنعم والمصائب مقدرة فلم فرق سبحانه بين الحسنات التي هي النعم والسيئات التي هي المصائب فجعل هذه منه سبحانه وهذه من نفس الإنسان والجميع مقدر، قال السني: بينهما فروق الفرق الأول أن نعم الله وإحسانه إلى عباده يقع بلا كسب منهم أصلا بل الرب سبحانه ينعم عليهم بالعافية والرزق والنصر وإرسال الرسل وإنزال الكتب وأسباب الهداية فيفعل ذلك من لم يكن منه سبب يقتضيه وينشئ للجنة خلقا يسكنهم إياها بغير سبب منهم ويدخل أطفال المؤمنين ومجانينهم الجنة بلا عمل وأما العقاب فلا يعاقب أحدا إلا بعمله، الفرق الثاني أن عمل الحسنات من إحسان الله ومنه وتفضله عليه بالهداية والإيمان كما قال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} فخلق الرب سبحانه لهم الحياة والسمع والبصر والعقول والأفئدة وإرسال الرسل وتبليغهم البلاغ الذي اهتدوا به وإلهامهم الإيمان وتحبيبه إليهم وتزيينه في قلوبهم وتكريه ضده إليهم كل ذلك من نعمه كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فجميع ما يتقلب فيه العالم من خير الدنيا والآخرة هو نعمة محضة بلا سبب سابق يوجب ذلك لهم ومن غير حول وقوة منهم إلا به وهو خالقهم وخالق أعمالهم الصالحة وخالق جزائها وهذا كله منه سبحانه بخلاف الشر فإنه لا يكون إلا بذنوب العبد وذنبه من نفسه وإذا تدبر العبد هذا علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله فشكر ربه على ذلك فزاده من فضله عملا صالحا ونعما يفيضها عليه وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه وبذنوبه استغفر ربه وتاب فزال عنه سبب الشر فيكون دائما شاكرا مستغفرا فلا يزال الخير يتضاعف له والشر يندفع عنه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته الحمد لله فيشكر الله ثم يقول نستعينه ونستغفره نستعينه على طاعته ونستغفره من معصيته ونحمده على فعله وإحسانه ثم قال ونعوذ بالله من شرور أنفسنا لما استغفره من الذنوب الماضية استعاذ به من الذنوب التي لم تقع بعد ثم قال ومن سيئات أعمالنا فهذه استعاذة من عقوبتها كما تقدم ثم قال من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له فهذه شهادة للرب بأنه المتصرف في خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء فإذا هدى عبدا لم يضله أحد وإذا أضله لم يهده أحد وفي ذلك إثبات ربوبيته وقدرته وعلمه وحكمته وقضائه وقدره الذي هو عقد نظام التوحيد وأساسه وكل هذا مقدمة بين يدي قوله وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فإن الشهادتين إنما تتحققان بحمد الله واستعانته واستغفاره واللجأ إليه والإيمان بأقداره والمقصود أنه سبحانه فرق بين الحسنات والسيئات بعد أن جمع بينهما في قوله كل من عند الله فجمع بينهما الجمع الذي لا يتم الإيمان إلا به وهو اجتماعهما في قضائه وقدره ومشيئته وخلقه ثم فرق بينهما الفرق الذي ينتفعون به وهو أن هذا الخير والحسنة نعمة منه فاشكروه عليه يزدكم من فضله ونعمه وهذا الشر والسيئة بذنوبكم فاستغفروه يرفعه عنكم وأصله من شرور أنفسكم فاستعيذوا به يخلصكم منها ولا يتم ذلك إلا بالإيمان بالله وحده وهو الذي يهدي ويضل وهو الإيمان بالقدر فادخلوا عليه من بابه فإن أزمة الأمور بيده فإذا فعلتم ذلك صدق منكم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فهذه الخطبة العظيمة عقد نظام الإسلام والإيمان فلو اقتصر لهم على الجمع دون الفرق أعرض العاصي والمذنب عن ذم نفسه والتوبة من ذنوبه والاستعاذة من شرها وقام في قلبه شاهد الاحتجاج على ربه بالقدر وتلك حجة داحضة تبع الأشقياء فيها إبليس وهي لا تزيد صاحبها إلا شقاء وعذابا كما زادت إبليس طردا وبعدا عن ربه وكما زادت المشركين ضلالا وشقاء حين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا وكما تزيد الذي يقول يوم القيامة لو أن الله هداني لكنت من المتقين حسرة وعذابا ولو اقتصر لهم على الفرق دون الجمع لغابوا به في التوحيد والإيمان بالقدر واللجأ إلى الله في الهداية والتوفيق والاستعاذة به من شر النفس وسيئات العمل والافتقار التام إلى إعانته وفضله وكان في الجمع والفرق بيان حق العبودية وسيأتي تمام هذا الكلام على هذا الموضع العظيم القدر إن شاء الله بإثبات اجتماع القدر والشرع وافتراقهما، الفرق الثالث أن الحسنة يضاعفها الله سبحانه وينميها ويكتبها للعبد بأدنى سعي ويثيب على الهم بها والسيئة لا يؤاخذ على الهم بها ولا يضاعفها ويبطلها بالتوبة والحسنة الماحية والمصائب المكفرة فكانت الحسنة أولى بالإضافة إليه تعالى والسيئة أولى بالإضافة إلى النفس، الفرق الرابع أن الحسنة التي هي الطاعة والنعمة يحبها ويرضاها فهو سبحانه يحب أن يطاع ويحب أن ينعم ويحسن ويجود وإن قدر المعصية وأراد المنع فالطاعة أحب إليه والبذل والعطاء آثر عنده فكان إضافة نوعي الحسنة له وإضافة نوعي السيئة إلى النفس أولى ولهذا تأدب العارفون من عباده بهذا الأدب فأضافوا إليه النعم والخيرات وأضافوا الشرور إلى محلها كما قال إمام الحنفاء: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فأضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه، وقال الخضر: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} ثم قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا}، وقال مؤمنو الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً}، الفرق الخامس أن الحسنة مضافة إليه لأنه أحسن بها من كل وجه وبكل اعتبار كما تقدم فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه وأما السيئة فهو سبحانه إنما قدرها وقضاها لحكمته وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه فإن الرب سبحانه لا يفعل سوأ قط كما لا يوصف به ولا يسمى باسمه بل فعله كله حسن وخير وحكمة كما قال تعالى بيده الخير وقال أعرف الخلق به: "والشر ليس إليك" فهو لا يخلق شرا محضا من كل وجه بل كل ما خلقه ففي خلقه مصلحة وحكمة وإن كان في بعضه شر جزئي إضافي وأما الشر الكلي المطلق من كل وجه فهو تعالى منزه عنه وليس إليه، الفرق السادس أن ما يحصل للإنسان من الحسنات التي يعملها فهي أمور وجودية متعلقة بمشيئة الرب وقدره ورحمته وحكمته وليست أمورا عدمية تضاف إلى غير الله بل هي كلها أمور وجودية وكل موجود حادث والله محدثه وخالقه وذلك أن الحسنات إما فعل مأمور أو ترك محظور والترك أمر وجودي فترك الإنسان لما نهى عنه ومعرفته بأنه ذنب قبيح وبأنه سبب العذاب فبغضه له وكراهته له ومنع نفسه إذا هويته وطلبته منه أمور وجودية كما أن معرفته بالحسنات كالعدل والصدق حسنة وفعله لها أمر وجودي والإنسان إنما يثاب على ترك السيئات إذا تركها على وجه الكراهة لها والامتناع عنها وكف للنفس عنها قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} وقال: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" وقد جعل صلى الله عليه وسلم البغض في الله من أوثق عرى الإيمان وهو أصل الترك وجعل المنع لله من كمال الإيمان وهو أصل الترك فقال: "من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" وقال: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" وجعل إنكار المنكر بالقلب من مراتب الإيمان وهو بغضه وكراهته المستلزم لتركه فلم يكن الترك من الإيمان إلا بهذه الكراهة والبغض والامتناع والمنع لله وكذلك براءة الخليل وقومه من المشركين ومعبودهم ليست تركا محضا بل تركا صادرا عن بغض ومعاداة وكراهة هي أمور وجودية هي عبودية للقلب يترتب عليها خلو الجوارح من العمل كما أن التصديق والإرادة والمحبة للطاعة من عبودية القلب يترتب عليها آثارها في الجوارح وهذا الحب والبغض تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وهو إثبات تأله القلب لله ومحبته ونفي تألهه لغيره وكراهته فلا يكفي أن يعبد الله ويحبه ويتوكل عليه وينيب إليه ويخافه ويرجوه حتى يترك عبادة غيره والتوكل عليه والإنابة إليه وخوفه ورجاه ويبغض ذلك وهذه كلها أمور وجودية وهي الحسنات التي يثيب الله عليها وأما مجرد عدم السيئات من غير أن يعرف أنها سيئة ولا يكرهها بقلبه ويكف نفسه عنها بل يكون تركها لعدم خطورها بقلبه ولا يثاب على هذا الترك فهذا تكون السيئات في حقه بمنزلتها في حق الطفل والنائم لكن قد يثاب على اعتقاد تحريمها وإن لم يكن له إليها داعية البتة فالترك ثلاثة أقسام قسم يثاب عليه وقسم يعاقب عليه وقسم لا يثاب ولا يعاقب عليه فالأول ترك العالم بتحريمها الكاف نفسه عنها لله مع قدرته عليها والثاني كترك من يتركها لغير الله لا لله فهذا يعاقب على تركه لغير الله كما يعاقب على فعله لغير الله فإن ذلك الترك والامتناع فعل من أفعال القلب فإذا عبد به غير الله استحق العقوبة، والثالث كترك من لم يخطر على قلبه علما ولا محبة ولا كراهة بل بمنزلة ترك النائم والطفل، فإن قيل كيف يعاقب على ترك المعصية حياء من الخلق وإبقاء على جاهه بينهم وخوفا منهم أن يتسلطوا عليه والله سبحانه لا يذم على ذلك ولا يمنع منه، قيل لا ريب أنه لا يعاقب على ذلك وإنما يعاقب على تقربه إلى الناس بالترك ومرآتهم به وأنه تركها خوفا من الله ومراقبة وهو في الباطن بخلاف ذلك فالفرق بين ترك يتقرب به إليهم ومرآتهم به وترك يكون مصدره الحياء منهم وخوف أذاهم له وسقوطه من أعينهم فهذا لا يعاقب عليه بل قد يثاب عليه إذا كان له فيه غرض يحبه الله من حفظ مقام الدعوة إلى الله وقبولهم منه ونحو ذلك وقد تنازع الناس في الترك هل هو أمر وجودي أم عدمي والأكثرون على أنه وجودي، وقال أبو هاشم وأتباعه هو عدمي وأن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل لا على ترك يقوم بقلبه وهؤلاء رتبوا الذم والعقاب على العدم المحض والأكثرون يقولون إنما يثاب من ترك المحظور على ترك وجودي يقوم بنفسه ويعاقب تارك المأمور على ترك وجودي يقوم بنفسه وهو امتناعه وكفه نفسه عن فعل ما أمر به إذا تبين هذا فالحسنات التي يثاب عليها كلها وجودية فهو سبحانه الذي حبب الإيمان والطاعة إلى العبد وزينه في قلبه وكره إليه أضدادها وأما السيئات فمنشأها من الجهل والظلم فإن العبد لا يفعل القبيح إلا لعدم علمه بكونه قبيحا أو لهواه وشهوته مع علمه بقبحه فالأول جهل والثاني ظلم ولا يترك حسنة إلا لجهله بكونها حسنة أو لرغبته في ضدها لموافقته هواه وغرضه وفي الحقيقة فالسيئات كلها ترجع إلى الجهل وإلا فلو كان علمه تاما برجحان ضررها لم يفعلها فإن هذا خاصة الفعل فإنه إذا علم أن إلقاءه من مكان عال يضره لم يقدم عليه وكذلك لبثه تحت حائط مائل وإلقاءه نفسه في ماء يغرق فيه وأكله طعاما مسموما ولا يفعله لعلمه التام بمضرته الراجحة بل هذه فطرة فطر الله عليها الحيوان بهيمة وناطقة ومن لم يعلم أن ذلك يضره كالطفل والمجنون والسكران الذي انتهى سكره فقد يفعله وأما من أقدم على ما يضره مع علمه بما فيه من الضرر فلا بد أن يقوم بقلبه أن منفعته له راجحة ولا بد من رجحان المنفعة عنده إما في الظن وإما في المظنون ولو جزم راكب البحر بأنه يغرق ويذهب ماله لم يركب أبدا بل لا بد من رجحان الانتفاع في ظنه وإن أخطأ في ذلك وكذلك الذنوب والمعاصي فلو جزم السارق بأنه يؤخذ ويقطع لم يقدم على السرقة بل يظن أنه يسلم ويظفر بالمال وكذلك القاتل والشارب والزاني فلو جزم طالب الذنب بأنه يحصل له الضرر الراجح لم يفعله بل إما أن لا يكون جازما بتحريمه أو لا يجزم بعقوبته بل يرجو العفو والمغفرة وأن يتوب ويأتي بحسنات تمحو أثره وقد يغفل عن هذا كله بقوة وإرادة الشهوة واستيلاء سلطانها على قلبه بحيث تغيبه عن مطالعة مضرة الذنب والغفلة من أضداد العلم كالغفلة والشهوة أصل الشر كله قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} وينبغي أن يعلم أن الهوى وحده لا يستقل بفساد السيئات إلا مع الجهل وإلا فصاحب الهوى لو جزم بأن ارتكاب هواه يضره ولا بد ضررا راجحا لانصرفت نفسه عن طاعته له بالطبع فإن الله سبحانه جعل في النفس حبا لما ينفعها وبغضا لما يضرها فلا تفعل مع حضور عقلها ما تجزم بأنه يضرها ضررا راجحا ولهذا يوصف تارك ذلك بالعقل والحجى واللب فالبلاء مركب من تزيين الشيطان وجهل النفس فإنه يزين لها السيئات ويريها أنها في صور المنافع واللذات والطيبات ويغفلها عن مطالعتها لمضرتها فتولد من بين هذا التزيين وهذا الإغفال والإنساء لها إرادة وشهوة ثم يمدها بأنواع التزيين فلا يزال يقوى حتى يصير عزما جازما يقترن به الفعل كما زين للأبوين الأكل من الشجرة وأغفلهما عن مطالعة مضرة المعصية فالتزيين هو سبب إيثار الخير والشر كما قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} وقال في تزيين الخير: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} وقال في تزيين النوعين: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وتزيين الخير والهدى بواسطة الملائكة والمؤمنين وتزيين الشر والضلال بواسطة الشياطين من الجن والإنس كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} وحقيقة الأمر أن التزيين إنما يغتر به الجاهل لأنه يلبس له الباطل والضار المؤذي صورة الحق والنافع الملائم فأصل البلاء كله من الجهل وعدم العلم ولهذا قال الصحابة كل من عصى الله فهو جاهل وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} وقال: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال أبو العالية: "سألت أصحاب محمد عن قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل ومن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب" وقال قتادة: "أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة عمدا كان أو لم يكن وكل من عصى الله فهو جاهل" وقال مجاهد: "من شيخ أو شاب فهو بجهالة" وقال: "من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن خطيئته" وقال هو وعطاء: "الجهالة العمد" وقال مجاهد: "من عمل سوأ خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع منه" ذكر هذه الآثار ابن أبي حاتم ثم قال وروي عن قتادة وعمرو بن مرة والثوري نحو ذلك خطأ أو عمدا وروي عن مجاهد والضحاك: "ليس من جهالته أن لا يعلم حلالا ولا حراما ولكن من جهالته حين دخل فيه" وقال عكرمة: "الدماء كلها جهالة ومما يبين ذلك قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وكل من خشيه فأطاعه بفعل أوامره وترك نواهيه فهو عالم كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}" وقال رجل للشعبي: أيها العالم فقال: "لسنا بعلماء إنما العالم من يخشى الله" وقال ابن مسعود: "وكفى بخشية الله علما وبالاغترار بالله جهلا" وقوله إنما يخشى الله من عباده العلماء يقتضي الحصر من الطرفين أن لا يخشاه إلا العلماء ولا يكون عالما إلا من يخشاه فلا يخشاه إلا عالم وما من عالم إلا وهو يخشاه فإذا انتفى العلم انتفت الخشية وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم لكن وقع الغلط في مسمى العلم اللازم للخشية حيث يظن أنه يحصل بدونها وهذا ممتنع فإنه ليس في الطبيعة أن لا يخشى النار والأسد والعدو من هو عالم بها مواجه لها وأنه لا يخشى الموت من ألقى نفسه من شاهق ونحو ذلك فأمنه في هذه المواطن دليل عدم علمه وأحسن أحواله أن يكون معه ظن لا يصل إلى رتبة العلم اليقيني فإن قيل فهذا ينتقض عليكم بمعصية إبليس فإنها كانت عن علم لا عن جهل وبقوله: : {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وقال: : {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} وقال عن قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} وقال: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} وقال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} يعني القرآن أو محمدا صلى الله عليه وسلم وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} والجحود إنكار الحق بعد معرفته وهذا كثير في القرآن قيل حجج الله لا تتناقص بل كلها حق يصدق بعضها بعضا وإذا كان سبحانه قد أثبت الجهالة لمن عمل السوء وقد أقر به وبرسالته وبأنه حرم ذلك وتوعد عليه بالعقاب ومع ذلك يحكم عليه بالجهالة التي لأجلها عمل السوء فكيف بمن أشرك به وكفر بآياته وعادى رسله أليس ذلك أجهل الجاهلين وقد سمى تعالى أعداءه جاهلين بعد إقامة الحجة عليهم فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فأمره بالإعراض عنهم بعد أن أقام عليهم الحجة وعلموا أنه صادق وقال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} فالجاهلون هم الكفار الذين علموا أنه رسول الله فها العلم لا ينافي الحكم على صاحبه بالجهل بل يثبت له العلم وينافي عنه في موضع واحد كما قال تعالى عن السحرة من اليهود: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فأثبت لهم العلم الذي تقوم به عليهم الحجة ونفى عنهم العلم النافع الموجب لترك الضار وهذا نكتة المسألة وسر الجواب فما دخل النار إلا عالم ولا دخلها إلا جاهل وهذا العلم لا يجتمع مع الجهل في الرجل الواحد يوضحه أن الهوى والغفلة والإعراض تصد عن كماله واستحضاره ومعرفة موجبه على التفصيل وتقيم لصاحبه شبها وتأويلات تعارضه فلا يزال المقتضى يضعف والعارض يعمل عمله حتى كأنه لم يكن ويصير صاحبه بمنزلة الجاهل من كل وجه فلو علم إبليس أن تركه للسجود لآدم يبلغ به ما بلغ وأنه يوجب له أعظم العقوبة وتيقن ذلك لم يتركه ولكن حال الله بينه وبين هذا العلم ليقضي أمره وينفذ قضائه وقدره ولو ظن آدم وحواء أنهما إذا أكلا من الشجرة خرجا من الجنة وجرى عليهما ما جرى ما قرباها ولو علم أعداء الرسل تفاصيل ما يجري عليهم وما يصيبهم يوم القيامة وجزموا بذلك لما عادوهم قال تعالى عن قوم فرعون: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} وقال: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} وقال عن المنافقين وقد شاهدوا آيات الرسول وبراهين صدقه عيانا: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} وقال: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} وقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وهو الشك ولو كان هذا لعدم العلم الذي تقوم به الحجة عليهم لما كانوا في الدرك الأسفل من النار بل هذا بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم الذي لم ينفعهم فالعلم يضعف قطعا بالغفلة والإعراض واتّباع الهوى وإيثار الشهوات وهذه الأمور توجب شبهات وتأويلات تضاده فتأمل هذا الموضع حق تأمل فإنه من أسرار القدر والشرع والعدل فالعلم يراد به العلم التام المستلزم لأثره ويراد به المقتضى وإن لم يتم بوجود شروطه وانتقاء موانعه فالثاني يجامع الجهل دون الأول فتبين أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم وإن كان كذلك فعدم العلم ليس أمرا وجوديا بل هو لعدم السمع والبصر والقدرة والإرادة والعدم ليس شيئا حتى يستدعي فاعلا مؤثرا فيه بل يكفي فيه عدم مشيئة ضده وعدم السبب الموجب لضده والعدم المحض لا يضاف إلى الله فإنه شر والشر ليس إليه فإذا انتفى هذا الجازم عن العبد ونفسه بطبعها متحركة مريدة وذلك من لوازم شأنها تحركت بمقتضى الطبع والشهوة وغلب ذلك فيها على داعي العلم والمعرفة فوقعت في أسباب الشر ولا بد.
كتاب : شفاء العليل في مسائل
القضاء والقدر والحكمة والتعليل
تأليف : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
منتدى ميراث الرسول - البوابة