منتدى الف توتة و حدوتة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    من المَقَامَةُ السَّارِيَّةُ إلى ختام الكتاب

    avatar
    توتة
    Admin


    عدد المساهمات : 2017
    تاريخ التسجيل : 13/02/2014

    من المَقَامَةُ السَّارِيَّةُ إلى ختام الكتاب Empty من المَقَامَةُ السَّارِيَّةُ إلى ختام الكتاب

    مُساهمة من طرف توتة الجمعة 24 سبتمبر - 8:50

    من المَقَامَةُ السَّارِيَّةُ إلى ختام الكتاب Hamaza10

    بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    مكتبة الثقافة الأدبية
    مقامات بديع الزمان الهمذاني
    من المَقَامَةُ السَّارِيَّةُ إلى ختام الكتاب
    من المَقَامَةُ السَّارِيَّةُ إلى ختام الكتاب 1410
    ● [ المَقَامَةُ السَّارِيَّةُ ] ●

    حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:
    بَيْنَا نَحْنُ بِسَارِيَّةَ، عِنْدَ وَاليها، إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَتَىً بِهِ رَدْعُ صُفَارٍ، فَانْتَفَضَ المَجْلِسُ لَهُ قِيَاماً، وَأُجْلِسَ فِي صَدْرِهِ إِعْظَاماً، وَمَنَعَتْنِي الحِشْمَةُ لَهُ مِنْ مَسْأَلَتِي إِيَّاهُ عَنْ اسْمِهِ، وَابْتَدأَ فَقَالَ لِلْوالي: مَا فَعَلْتَ فِي الحَدِيثِ الأَمْسِي، لَعَلَّكَ جَعَلْتَهُ في المَنْسِي؟! فَقَالَ: مَعَاذَ اللهُ، وَلَكِنْ عَاقَنِي عَنْ بُلُوغِهِ عُذْرٌ لا يُمْكِنُ شَرْحُهُ، وَلا يُؤْسى جُرْحُهُ، فَقَالَ الدَّاخِلُ:يَا هَذا قَدْ طَالَ مِطَالُ هَذَا الوَعْدِ، فَمَا أَجِدُ غَدَكَ فِيهِ إِلاَّ كَيَوْمِكَ، وَلا يَوْمَكَ فِيهِ إِلاَّ كَأَمْسِكَ، فَمَا أُشَبِّهُكَ فِي الإِخْلاَفِ، إِلاَّ بِشَجَرِ الخِلافٍ، زَهْرُهُ يَمْلأُ العَيْنَ، وَلا ثَمَرَ فِي البَيْنِ.
    قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا بَلَغَ هَذا المَكَانَ قَطَعْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: حَرَسَكَ اللهُ! أَلَسْتَ الإِسْكَنْدَرِيَّ؟ فَقَالَ: وَأَدَامَ حِرَاسَتَكَ، مَا أَحْسَنَ فِرَاسَتكَ! فَقُلْتُ: مَرحَباً بِأَمِيرِ الكَلاَمِ، وَأَهْلاً بِضَالَّةِ الكِرَامِ، لَقَدْ نَشَدْتُهَا حَتَّى وَجَدْتُهَا، وَطَلَبْتُهَا، حَتَّى أَصَبْتُهَا، ثُمَّ تَرَافَقْنَا حَتَّى اجْتَذَبَني نَجْدٌ، وَلَقِمَهُ وَهْدٌ، وَصَعَّدِتُ وَصَوَّبَ، وَشَرَّقْتُ وَغَرَّبْ، فَقُلْتُ عَلَى أَثَرِهِ:
    يَالَيْتَ شِعْريَ عَنْ أَخٍ ... ضَاقَتْ يَدَاهُ وَطَالَ صِيتُهْ
    قَدْ بَاتَ بَارِحَةً لَدَيَّ ... فَأَيْنَ لَيْلَتَنَا مَبِيتُهْ
    لاَ دَرَّ دَرُّ الفَقْرِ فَهْ وَ طَرِيدُهُ وَبِهِ رُزِيتُهْ
    لاَ سَلِّطَنَّ عَلَيْهِ مِنْ ... خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ مَنْ يُمِيتُهْ
    ● [ الَمَقامَةُ التَّمِيمِيَّةُ ] ●

    حَدَثَّنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:
    وُلِيتُ بَعْضَ الوِلاَيَاتِ مِنْ بِلاَدِ الشَّامِ، وَوَرَدَهَا سَعْدُ بْنُ بَدْرٍ أَخُو فَزَارَةَ، وَقَدْ وُلِّيَ الوِزَارَةَ، وَأَحْمَدُ الوَلِيدِ، عَلَى عَمَلِ البَرِيدِ، وَخَلَفُ بْنُ سَالِمٍ، عَلَى عَمَلِ المَظَالِمِ، وَبَعْضُ بَنِي ثَوَابَةَ، وَقَدْ وُلِّيَ الكِتَابَةِ وَجُعِلَ عَمَلُ الزِّمَامِ، إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَصَارَتْ تُحْفَةَ الفُضَلاءِ، وَمَحَطَّ رِحَالِهِمْ، وَلَمْ يَزَلْ يَرِدُ الوَاحِدُ بَعْدَ الوَاحِدِ، حَتَّى امْتَلأتِ العُيُونُ مِنَ الحَاضِرِينَ، وَثَقُلُوا عَلَى القُلُوبِ، وَوَرَدَ فِيْمَنْ وَرَدَ أَبُو النَّدَى التَّمِيمِيُّ، فَلَمْ تَقِفْ عَلَيْهِ العُيُونُ، وَلا صَفَتْ لَهُ القُلوبُ، وَدَخَلَ يَوْماً إِلَيَّ فَقَدَرْتُهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَأَقْعَدْتُهُ مِنَ المَجْلِسِ فِي صَدْرِهِ، وَقُلْتُ: كَيْفَ يُرَجِّى الأُسْتاذُ عُمْرَهُ؟ وَكَيْفَ يَرَى أَمْرَهُ؟ فَنَظَرَ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ اليَسَارِ، فَقَالَ: بَيْنَ الخُسْرَانِ وَالخَسارِ، وَالذُّلِّ وَالصَّغارِ وَقَوْمٌ كَرَوْثِ الحِمَارِ، يَشُمُّهُم الإِقْبَالُ وَهُمْ مُنْتِنُونَ، وَيُحْسِنُ إِلَيِّهِمْ فَلا يُحْسِنُونَ، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ وَرَدْتُ مِنْهُمْ عَلَى قَوْمٍ مَا يُشْبِهُهُمْ مِنَ النَّاسِ، غَيْرُ الرَّأْسِ وَاللِّبَاسِ، وَجَعَلَ يَقُولُ:
    فِدَىً لَكِ يَا سِجِسْتَانُ البِلاَدُ ... وَلِلْمَلِكِ الكَرِيمِ بِكِ العِبَادُ
    هَبِ الأَيَّامَ تُسْعِدُنِي وَهَبْنِي ... تُبَلِّغُنِيهِ رَاحِلَةٌ وَزَادُ
    فَمَنْ لِي بِالَّذِي قَدْ مَاتَ مِنْهُ ... وَبِالعُمْرِ الَّذِي لا يُسْتَعَادُ؟.
    ● [ المَقَامَةُ الخَمْرِيَّةُ ] ●

    حَدَّثَنَا عِيسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:اتَّفَقَ ليِ في عُنْفُوَانِ الشَّبِيبَةِ خُلُقٌ سَجِيحٌ، وَرَأْيٌ صَحِيحٌ، فَعَدَّلْتُ مِيزَانَ عَقْليِ، وَعَدَلْتُ بَيْنَ جِدِّي وَهَزْلِي، وَاتَّخَذْتُ إِخْواناً لِلْمِقَةِ، وَآخَرِينَ للنَّفَقَةِ، وَجَعَلْتُ النَّهَاَرَ لِلنَّاسِ، وَاللَّيْلَ لْلكاَسِ.
    قَالَ: واجْتَمَعَ إِلَيَّ فِي بَعْضِ لَيَالِيَّ إِخْوانُ الخَلْوَةِ، ذَوُو المَعَاني الحُلْوَةِ، فَمَا زِلْنَا نَتَعَاطَى نُجُومَ الأَقْدَاحِ، حَتَّى نَفَدَ مَا مَعْنَا مِنْ الرَّاحِ.
    قَالَ: واجْتَمَعَ رَأْيُ النَّدْمَانِ، عَلَى فَصْدِ الدِّنَانِ، فَأَسَلْنَا نَفْسَهَا، وَبَقِيَتْ كَالصَّدَفِ بِلا دُرٍّ، أَوْ المِصْرِ بِلا حُرٍّ.
    قَالَ: وَلَمَّا مَسَّتْنَا حَالُنَا تِلْكَ دَعَتْنَا دَوَاعِي الشَّطَارَةِ، إِلَى حَانِ الخَمَّارَةِ، وَالْلَّيْلُ أَخْضَرُ الدِّيبَاجِ، مُغْتَلِمُ الأَمْواجِ، فَلَمَّا أَخَذْنَا فِي السَّبْحِ، ثَوَّبَ مُنَادِي الصُّبْحِ، فَخَنَسَ شَيْطَانُ الصَّبْوَةِ، وَتَبَادَرْنَا إِلَى الدَّعْوَةِ، وَقُمْنَا وَرَاءَ الإِمَامِ، قِيَامِ البَرَرَةِ الكِرَامِ، بِوَقَارٍ وَسَكِينَةٍ، وَحَرَكَاتٍ مَوْزُونَةٍ، فَلِكُلِّ بِضَاعَةٍ وَقْتٌ، وَلِكُلِّ صِنَاعَةٍ سَمْتٌ، وَإِمَامُنَا يَجِدُّ فِي خَفْضِهِ وَرَفْعِهِ، وَيَدْعُونَا بِإِطَالَتِهِ إِلَى صَفْعِهِ، حَتَّى إِذَا رَاجَعَ بَصِيرَتَهُ، وَرَفَعَ بِالسَّلاَمِ عَقِيرَتَهُ، تَرَبَّعَ فِي رُكْنِ مِحْرَابِهِ، وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلى أَصْحَابِهِ، وَجَعَلَ يُطِيلُ إِطْرَاقِهِ، وَيُدِيمُ اسْتِنْشَاقَهُ، ثُمًّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ خَلَطَ فِي سِيرَتِهِ، وابْتُلِيَ بِقَاذُورَتِهِ، فَلْيَسَعْهُ دِيماسُهُ، دُونَ أَنْ تُنَجِّسَنَا أَنْفَاسَهُ، إِنِّي لأَجِدُ مُنْذُ اليَومِ، رِيحَ أُُمِّ الكَبَائِرِ مِنْ بَعْضِ القَوْمِ، فَمَا جَزَاءُ مَنْ بَاتَ صَرِيعَ الطَاغُوتِ، ثُمَّ ابْتَكَرَ إِلَى هذِهِ البُيُوتِ، الَّتِي أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ، وَبِدَابِرِ هَؤُلاءِ أَنْ يُقْطَعْ، وَأَشَارَ إِلَيْنَا، فَتَأَلَّبَتِ الجَمَاعَةُ عَلَيْنَا، حَتَّى مُزِّقَتِ الأَرْدِيَةُ، وَدَمِيَتِ الأَقْفِيَةُ، وَحَتَّى أَقْسَمْنَا لَهُمْ لا عُدْنَا، وَأَفْلَتْنَا مِنْ بَيْنِهِمْ وَمَا كِدْنَا، وَكُلُّنَا مُغْتَفِرٌ لِلْسَلامَةِ، مِثْلَ هَذِهِ الآفَةِ، وَسَأَلْنَا مَنْ مَرَّ بِنَا مِنَ الصِّبْيَةِ، عَنْ إِمَامِ تِلْكَ القَرْيَةِ، فَقَالُوا: الرَّجُلُ التَّقِيُّ، أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ، فَقُلْنَا: سُبْحَانَ اللهِ! رُبَّمَا أَبْصَرَ عِمِّيتٌ، وَآمَنَ عِفْرِيتٌ، وَالحَمْدُ للِه لَقَدْ أَسْرَعَ فِي أَوْبَتِهِ، وَلا حَرَمَنَا اللهُ مِثْلَ تَوْبَتِهِ، وَجَعَلنَا بَقِيَّةَ يَوْمِنَا نَعْجَبُ مِنْ نُسْكِهِ، مَعَ مَا كُنَّا نَعْلَمُ مِنْ فِسْقِهِ.
    قَالَ:وَلَمَّا حَشْرَجَ النَّهَارُ أَوْ كَادَ، نَظَرْنَا فَإِذَا بِرَايَاتِ الحَانَاتِ أَمْثَالُ النُّجُومِ، في الْلَّيْلِ البَهِيمِ، فَتَهَادَيْنَا بِهَا السَّرَّاءَ، وَتَبَاشَرْنَا بِلَيْلَةٍ غَرَّاءَ، وَوَصَلْنَا إِلَى أَفْخَمِهَا بَاباً، وَأَضْخَمِهَا كِلاباً، وَقَدْ جَعَلْنَا الدِّينَارَ إِمَاماً، وَالاسْتِهْتَارِ لِزَاماً، فَدُفِعْنَا إِلَى ذَاتِ شَكْلٍ وَدَلٍّ، وَوِشَاحِ مُنْحَلٍّ، إِذَا قَتَلَتْ أَلْحَاظُهَا، أَحْيَتْ أَلْفَاظُهَا، فَأَحْسَنَتْ تَلَقِّينَا، وَأَسْرَعَتْ تُقَبِّلُ رُؤُوسَنَا وَأَيْدِينَا، وَأَسْرَعَ مَنْ مَعَهَا مِنَ العُلُوجِ ، إِلَى حَطِّ الرِّحَالِ وَالسُّرُوجِ، وَسَأَلْنَاهَا عَنْ خَمْرِهَا، فَقَالَتْ:
    خَمْرٌ كَرِيقِي فِي العُذُو ... بَةِ وَالَّلذَاذَةِ وَالحَلاوَةْ
    تَذَرُ الحَلِيمَ وَمَا عَلَيْهِ لِحِلْمِهِ أَدْنَى طُلاَوَةْ
    كَأَنَّمَا اعْتَصَرَهَا مِنْ خَدِّي، أَجْدَادُ جَدِّي.
    وَسَرْبَلُوها مِنَ القَارِ، بِمِثْلِ هَجْرِي وَصَدِّي، وَدِيعَةُ الدُّهُورِ، وَخَبِيئَةُ جَيْبِ السُّرُورِ، وَمَا زَالَتْ تَتَوارَثْهَا الأَخْيَارُ، وَيَأْخِذُ مِنْهَا الْلَّيْلُ وَالنَّهَارُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرَجٌ وَشُعَاعٌ،وَوَهْجٌ لَذَّاعُ، رَيْحَانَةُ النَّفْسِ، وَضَرَّةُ الشَّمْسِ، فَتَاةُ البَرْقِ، عَجُوزُ المَلْقِ، كَالَّلهَبِ في العُرُوقِ، وَكَبَرْدِ النَّسِيم فِي الحُلُوقِ، مِصْبَاحُ الفِكْرِ، وَتِرْيَاقُ سَمِّ الدَّهْرِ، بِمِثْلِهَا عُزّزَ المَيِّتُ فَانْتَشَرَ، وَدُووِيَ الأَكْمَهُ فَأَبْصَرَ، قُلْنَا: هذِهِ الضَّالَّةُ وَأَبِيكِ، فَمنِ المُطْرِبُ فِي نَادِيكِ؟.
    وَلَعَلَّهَا تُشَعْشَعُ لِلشَّرْب، بِرِيقِكِ العَذْبِ، قَالَتْ: إِنَّ لِي شَيْخاً ظَرِيفَ الطَّبْعِ، طَرِيفَ المُجُونِ، مَرَّ بِي يَوْمَ الأَحَدِ فِي دَيْرِ المِرْبَدِ، فَسَارَّنِي حَتَّى سَرَّنِي، فَوَقَعَتِ الخُلْطَةُ، وَتَكَرَّرَتِ الغِبْطَةُ، وَذَكَرَ لِي مِنْ وُفُورِ عِرْضِهِ، وَشَرَفِ قَوْمِهِ فِي أَرْضِهِ، مَا عَطَفَ بِهِ وُدّي، وَحَظِيَ بِهِ عِنْدِي، وَسَيَكُونُ لَكُمْ بِهِ أُنْسٌ، وَعَلَيْهِ حِرْصٌ، قَالَ: وَدَعَتْ بِشَيْخِهَا فَإِذَا هُوَ إِسْكَنْدَرِينَا أَبُو الفَتْحِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الفَتْحِ، واللهِ كَأَنَّمَا نَظَرَ إِلَيْكَ، وَنَطَقَ عَنْ لِسَانِكَ الَّذِي يَقُولُ:
    كَانَ لِي فِيمَا مَضَ ... ى عَقْلٌ وَدِينٌ وَاسْتِقَامَةْ
    ثُمَّ قَدْ بِعْنَا بِحَمْدِ ... اللهِ فِقْهاً بِحِجامَةْ
    وَلَئِنْ عِشْنَا قَلِيلاً ... نَسأَلُ اللهَ السَّلاَمَةْ
    قَالَ: فَنَخَرَ نِخْرَةَ المُعْجَبِ، وَصَاحَ وَزَمْهَرَ، وَضَحِكَ حَتَّى قَهْقَهَ.
    ثُمَّ قَالَ: أَلِمِثْلِي يُقَالُ، أَوْ بِمِثْلِي تُضْرَبُ الأَمْثَالُ ؟؟
    دَعْ مِنَ اللَّوْمِ وَلَكِنْ ... أَيُّ دَكَّاكٍ تَرَانِي
    أَنَا مَنْ يَعْرِفُهُ كُلُّ ... تَهَامٍ وَيَمانِي
    أَنَا مِنْ كُلِّ غُبارٍ ... أَنَا مِنْ كُلِّ مَكَانِ
    سَاعَةَ أَلزَمُ مِحْرَا باً، وَأُخْرَى بَيْتَ حَانِ
    وَكَذَا يَفْعَلُ مَنْ يَعْقِ ... لُ فِي هَذَا الزَّمَانِ
    قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَاسْتَعَذْتُ بِاللهِ مِنْ مِثْلِ حَالِهِ، وَعَجِبْتُ لِقُعُودِ الرِّزْقِ عَنْ أَمْثَالِهش، وَطِبْنَا مَعَهُ أُسْبُوعَنَا ذَلِكَ، وَرَحَلْنَا عَنْهُ.
    ● [ المَقَامَةَ المَطْلَبِيَّةُ ] ●

    حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:
    اجْتَمَعْتُ يَوْماً بِجَماعَةٍ كَأَنَّهُمْ زَهْرُ الرَّبِيعِ، أَوْ نُجُومُ اللَّيْلِ بَعْدَ هَزِيعٍ، بِوُجُوهٍ مُضِيَّةٍ، وَأَخْلاقٍ رَضِيَّةٍ، قَدْ تَنَاسَبُوا فِي الزِّيِّ وَالحَالِ، وَتَشَابَهُوا في حُسْنِ الأَحْوَالِ، فَأَخَذْنَا نَتَجَاذَبُ أَذْيَالَ المُذَاكَرَةِ، وَنَفْتَحُ أَبْوابَ المُحَاضَرَةٍ، وَفِي وَسَطِنَا شَابٌّ قَصِيرٌ مِنْ بَيْنِ الرِّجَالِ، مَحْفُوفُ السِّبَالِ، لا يَنْبِسُ بِحَرْفٍ، وَلا يَخُوضُ مَعَنا في وَصْفٍ، حَتَّى انْتَهَى بِنَا الكَلاَمُ إِلَى مَدْحِ الغِنَى وَأَهْلِهِ، وَذِكْرِ المَالِ وَفَضْلِهِ، وَأَنَّهُ زِينَةُ الرِّجَالِ، وَغَايَةُ الكَمَال، فَكَأَنَّمَا هَبَّ مِنْ رَقْدَةٍ، أَوْ حَضَرَ بَعْدَ غَيْبَةٍ، وَفَتَحَ دِيوَانَهُ، وَأَطْلَقَ لِسَانَهُ، فَقَالَ: صَهْ لقَدْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيئٍ عَدِمْتُمُوهُ، وَقَصَّرْتُمْ عَنْ طَلَبِهِ فَهَجَّنْتُمُوهُ، وَخُدِعْتُمْ عَنْ البَاقِي بِالفَانِي، وَشُغِلْتُمْ عَنْ النَّائِي بِالدَّانِي، هَلْ الدُّنْيَا إِلاَّ مُنَاخُ رَاكِبٍ، وَتَعِلَّةُ ذَاهِبٍ؟ وَهَلْ المَالُ إِلاَّ عَارِيَةٌ مُرْتَجَعَةٌ، وَوَدِيعَةٌ مُنْتزَعَةٌ؟ يُنْقَلُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى آخَرِينَ، وَتَخْزُنُهُ الأَوَائِلُ لِلآخِرِينَ، هَلْ تَرَوْنَ المَالَ إِلاَّ عِنْدَ البُخَلاَءِ، دُوَنَ الكُرَماءِ، وَالجُهَّالِ دُونَ العُلَمَاءِ؟ إِيَّاكُمْ وَالانْخِدَاعَ فَلَيْسَ الفَخْرُ إِلاَّ في إِحْدَى الجِهَتَيْنِ، وَلا التَّقَدُّمُ إِلاَّ بِإِحْدَى القِسْمَتَيْنِ: إِمَّا نَسَبٌ شَرِيفٌ، أَوْ عِلْمٌ مُنَيفٌ، وَأَكْرِمْ بِشَيءٍ يُحْمَلُ عَلى الرُّؤُوسِ حَامِلُهُ، وَلا يَيْأَسُ مِنْهُ آمِلُهُ، وَاللهِ لَوْلاَ صِيَانَةُ النَّفْسِ وَالعِرْضِ، لَكُنْتُ أَغْنَى أَهْلِ الأَرْضِ، لأَنَّنِي أَعْرِفُ مَطْلَبَيْنِ، أَحَدُهُمَا بِأَرْضِ طَرْسُوسَ، تَشْرَهُ فِيهِ النُّفُوسُ، مِنْ ذَخَائِرِ العَمَالِقَةِ، وَخَبَايَا البَطارِقَةِ، فِيهِ مَائَةُ أَلْفِ مِثْقالٍ، وَأَمَّا الآخَرُ فَهْوَ مَا بَينَ سُورَا وَالجَامِعَيْنِ، فِيهِ مَا يَعُمُّ أَهْلَ الثَّقَلْينِ، مِنْ كُنُوزِ الأَكَاسِرَةِ، وَعُدَدِ الجَبَابِرَةِ، أَكْثَرُهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ، وَدُرُّ وَجَوْهَرٌ وَتِيجَانٌ مُرَصَّعَةٌ وَبِدَرٌ مُجَمَّعَةٌ فَلَمَّا أَنْ سَمِعْنَا ذَلِكَ أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ وَمِلْنَا إِلَيْهِ، وَأَخَذْنَا نَسْتَعْجِز رَأَيَهُ، فِي القُنُوعِ بِيَسِيرِ المَكَاسِبِ، مَعَ أَنَّهُ عَارِفٌ بِهَذِهِ المَطَالِبِ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يَفْزَعُ مِنْ السُّلْطانِ، وَلا يَثِقُ إِلى أَحَدٍ مِنَ الإِخْوَانِ، فَقُلْنَا لَهُ: قَدْ سَمِعْنَا حُجَّتُكَ، وَقَبِلْنَا مَعْذِرَتَكَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُحْسِنَ إِلَيْنَا، وَتَمُنَّ عَلَيْنَا، وَتُعَرَّفْنَا أَحَدَ هَذَيْنِ المَطْلَبَيْنِ، عَلى أَنَّ لَكَ الثُّلُثَيْنِ؛ فَعَلْتَ، فَأمالَ إِلَيْنَا يَدَهُ، وَقَالَ: مَنْ قَدَّمَ شَيْئاً وَجَدَهُ، وَمَنْ عَرَفَ مَا يُنَالُ، هَانَ عَلَيْهِ بَذْلُ المَالِ، فَكُلٌّ مِنَّا حَبَاهُ بِما حَضَرَ، وَتَشَوَّقَ إِلى مَا ذَكَرَ، فَلَمَّا مَلأْنَا كَفَّهُ، رَفَعَ إِلَيْنَا طَرْفَهُ، وَقَالَ: لابُدَّ أَنْ يَقْضِيَ عَلَقاً، وَنَنَالُ مَا يُمْسِكُ رَمَقاً، وَقَدْ ضَاقَ وَقْتُنَا، وَالمَوْعِدُ غَداً هَاهُنَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
    قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا تَفَرَّقَتْ تِلْكَ الجَمَاعَةُ، قَعَدْتُ بَعْدَهُمْ سَاعَةً، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ إِلَيْهِ، وَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقُلْتُ وَقَدْ رَغِبْتُ في مَعْرِفَتِهِ، وَتَاقَتْ نَفْسِي إِلَى مُحَادَثَتِهِ: كَأَنَّنيِ عَارِفٌ بِنَسَبِكَ، وَقَدْ اجْتَمَعْتُ بِكَ! فَقَالَ: نَعَمْ ضَمَّنَا طَرِيقُ، وَأَنْتَ لِي رَفِيقٌ، فَقُلْتُ: قَدْ غَيَّرَكَ عَلَيَّ الزَّمَانُ، وَمَا أَنْسَانِيكَ إِلاَّ الشَّيْطَانُ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
    أَنَا جَبَّارُ الزَّمَانِ ... لِي مِنَ السُّخْفِ مَعَانِي
    وَأَنَا المُنْفِقُ بَعْدَ ال ... مَالِ مِنْ كِيسِ الأَمَانِي
    مَنء أَرَادَ القَصْفَ وَالغَرْ ... فَ عَلَى عَزْفِ المَثَانِي
    وَاصْطَفَى المُرْدَانَ جَهْلاً ... مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنِ
    صَارَ مِنْ مَالٍ وَإِقْبَا ... لٍ تَرَاهُ فِي أَمَانِ
    ● [ المَقَامَةُ البِشْرِيَّة ] ●

    حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:
    كَانَ بِشْرُ بْنُ عَوَانَةُ العَبْدِيُّ صُعْلُوكاً. فَأَغَارَ عَلَى رَكْبٍ فِيهِمُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ، فَتَزَوَّجَ بِهَا، وَقالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَومِ، فَقالَتْ:
    أَعْجَبَ بِشْراً حَوَرٌ في عَيْنِي ... وَسَاعِدٌ أَبْيَضُ كالُّلجَيْنِ
    وَدُونَهُ مَسْرحَ طَرْفِ العَيْنِ ... خَمْصَانَةٌ تَرْفُلُ فَي حِجْلَينِ
    أَحْسَنُ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْليَنِ ... لَوْ ضَمَّ بِشْرٌ بَيْنَهَا وَبَيْني
    أَدَامَ هَجْرِي وَأَطَالَ بَيْنِي ... وَلَوْ يَقِيسُ زَيْنَهَا بِزَيْنِي
    لأَسْفَرَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ قَالَ بِشْرٌ: وَيْحَكِ مَنْ عَنَيْتِ؟ فَقَالَتْ: بِنْتَ عَمِّكَ فَاطِمَةَ، فَقالَ: أَهِيَ مِنَ الحُسْنِ بِحَيْثُ وَصَفْتِ؟ قالَتْ: وَأَزْيَدُ وَأَكْثَرُ، فَأَنْشَأ يَقُولُ:
    وَيْحَكِ يَا ذَاتَ الثَّنَايَا البِيضِ ... مَا خِلْتُنِي مِنْكِ بِمُسْتَعيضِ
    فَالآنَ إِذْ لَوَّحْتِ بِالتَّعْرِيضِ ... خَلَوْتِ جَوّاً فَاصْفِري وَبِيِضي
    لاَ ضُمَّ جَفْنَايَ عَلى تَغْمِيضِ ... مَا لَمْ أُشُلْ عِرْضِي مِنَ الحَضِيضِ
    فَقَالَتْ:
    كَمْ خَاطِبٍ فِي أَمْرِهَا أَلحَّا ... وَهْيَ إِلْيكَ ابْنَةُ عَمٍّ لَحَّا
    ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ يَخْطُبُ ابْنَتَهُ، وَمَنَعَهُ العَمُّ أُمْنِيَّتَهُ، فَآلى أَلاَّ يُرْعِىَ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِنْ لَمْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، ثُمَّ كَثُرَتْ مَضَرَّاتُهُ فِيهِمْ، وَاتَّصَلَتْ مَعَرَّاتُهُ إِلَيْهِمْ؛ فَاجْتَمَعَ رِجَالُ الحَيِّ إِلَى عَمِّهِ، وَقَالُوا:كُفَّ عَنَّا مَجْنُونَكَ، فَقَالَ: لاَ تُلْبِسُونشي عَاراً، وَأَمْهِلُونِي حَتَّى أُهْلِكَهُ بِبَعْضِ الحِيَلِ، فَقَالُوا: أَنْتَ وَذَاكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ عَمُّهُ: إِنِّي آلَيْتُ أَنْ لاَ أُزَوِّجَ ابْنَتِي هَذِهِ إِلاَّ مِمَّنْ يَسُوقُ إِلَيْهَا أَلْفَ نَاقَةٍ مَهْراً، وَلا أَرْضَاهَا إِلاَّ مِنْ نُوقِ خُزَاعَةَ، وَغَرَضُ العَمِّ كَانَ أَنْ يَسْلُكَ بِشْرٌ الطَّرِيقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُزَاعَةَ فَيَفْتَرِسَهُ الأَسَدُ؛ لأَنَّ العَرَبَ قَدْ كَانَتْ تَحَامَتْ عَنْ ذَلكَ الطَّريقِ، وَكَانَ فِيهِ أَسَدٌ يُسَمَّى دَاذاً، وَحَيَّةٌ تُدْعَى شُجَاعاً، يَقُولُ فِيِهِمَا قَائِلهُمْ:
    أَفْتَكُ مِنْ دَاذٍ وَمِنْ شُجَاعٍ ... إِنْ يِكُ دَاذٌ سَيِّدَ السِّبَاعِ
    فَإِنَّهَا سَيِّدَةُ الأَفَاعي ثُمَّ إِنَّ بِشْراً سَلَكَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ، فَمَا نَصَفَهُ حَتَّى لَقِيَ الأَسَدَ، وَقَمَصَ مُهْرُهُ، فَنَزَلَ وَعَقَرَهُ، ثُمَّ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ إِلَى الأَسَدِ، وَاعْتَرَضَهُ، وَقَطَّهُ، ثُمَّ كَتَبَ بِدَمِ الأَسَدِ عَلى قَميصِهِ إِلَى ابْنَةِ عَمِّهِ:
    أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَبْتٍ ... وَقَدْ لاَقى الهِزَبْرُ أَخَاكِ بِشْرَا
    إِذاً لَرَأَيْتِ لَيْثاً زَارَ لَيْثاً ... هِزَبْرَاً أَغْلَباُ لاقى هِزَبْرَا
    تَبَهْنَسَ إِذْ تَقاعَسَ عَنْهُ مُهْرِي ... مُحَاذَرَةً، فَقُلْتُ: عُقِرْتَ مُهْرَا
    أَنِلْ قَدَمَيَّ ظَهْرَ الأَرْضِ؛ إِنِّي ... رَأَيْتُ الأَرْضَ أَثْبَتَ مِنْكَ ظَهْرَا
    وَقُلْتُ لَهُ وَقَدْ أَبْدَى نِصالاَ ... مُحَدَّدَةً وَوَجْهاً مُكْفَهِراًّ
    يُكَفْكِفُ غِيلَةً إِحْدَى يَدَيْهِ ... وَيَبْسُطُ للْوُثُوبِ عَلىَّ أُخْرَى
    يُدِلُّ بِمِخْلَبٍ وَبِحَدِّ نَابٍ ... وَبِاللَّحَظاتِ تَحْسَبُهُنَّ جَمْرَا
    وَفي يُمْنَايَ مَاضِي الحَدِّ أَبْقَى ... بِمَضْرِبهِ قِراعُ المْوتِ أُثْرَا
    أَلَمْ يَبْلُغْكَ مَا فَعَلَتْ ظُباهُ ... بِكَاظِمَةٍ غَدَاةَ لَقِيتَ عَمْرَا
    وَقَلْبِي مِثْلُ قَلْبِكَ لَيْسَ يَخْشَى ... مُصَاوَلةً فَكَيفَ يَخَافُ ذَعْرَا ؟!
    وَأَنْتَ تَرُومُ للأَشْبَالِ قُوتاً ... وَأَطْلُبُ لابْنَةِ الأَعْمامِ مَهْرَا
    فَفِيمَ تَسُومُ مِثْلي أَنْ يُوَلِّي ... وَيَجْعَلَ في يَدَيْكَ النَّفْسَ قَسْرَا؟
    نَصَحْتُكَ فَالْتَمِسْ يا لَيْثُ غَيْرِي ... طَعَاماً؛ إِنَّ لَحْمِي كَانَ مُرَّا
    فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّ الغِشَّ نُصْحِى ... وَخالَفَنِي كَأَنِي قُلْتُ هُجْرَا
    مَشَى وَمَشَيْتُ مِنْ أَسَدَيْنَ رَاما ... مَرَاماً كانَ إِذْ طَلَباهُ وَعْرَا
    هَزَزْتُ لَهُ الحُسَامَ فَخِلْتُ أَنِّي ... سَلَلْتُ بِهِ لَدَى الظَّلْماءِ فَجْرَا
    وَجُدْتُ لَهُ بِجَائِشَةٍ أَرَتْهُ ... بِأَنْ كَذَبَتْهُ مَا مَنَّتْهُ غَدْرَا
    وَأَطْلَقْتُ المَهَّنَد مِنْ يَمِيِني ... فَقَدَّ لَهُ مِنَ الأَضْلاَعِ عَشْرَا
    فَخَرَّ مُجَدَّلاً بِدَمٍ كَأنيَّ ... هَدَمْتُ بِهِ بِناءً مُشْمَخِرا
    وَقُلْتُ لَهُ: يَعِزُّ عَلَّي أَنِّي ... قَتَلْتُ مُنَاسِبي جَلَداً وَفَخْرَا؟
    وَلَكِنْ رُمْتَ شَيْئاً لمْ يَرُمْهُ ... سِوَاكَ، فَلمْ أُطِقْ يالَيْثُ صَبْرَا
    تُحاوِلُ أَنْ تُعَلِّمنِي فِرَاراً! ... لَعَمْرُ أَبِيكَ قَدْ حَاوَلْتَ نُكْرَا!
    فَلاَ تَجْزَعْ؛ فَقَدْ لاقَيْتَ حُرًّا ... يُحَاذِرُ أَنْ يُعَابَ؛ فَمُتَّ حُرَّا
    فَإِنْ تَكُ قَدْ قُتِلْتَ فَليْسَ عَاراً ... فَقَدْ لاَقَيْتَ ذا طَرَفَيْنِ حُرَّا
    فَلمَّا بَلَغَتِ الأَبْيَاتُ عَمَّهُ نَدِمَ عَلَى ما مَنَعَهُ تَزْوِيجَهَا، وَخَشِيَ أَنْ تَغْتَالَهُ الحَيَّةُ، فَقَامَ في أَثرِهِ، وَبَلَغَهُ وَقَدْ مَلكَتَهُ سَوْرَةُ الحَيَّةِ، فَلمَّا رَأَى عَمَّهُ أَخَذَتْهُ حَمِيَّةُ الجَاهِلِيَّةِ، فَجَعلَ يَدَهُ فِي فَمِ الحَيَّةِ وَحَكَّمَ سَيْفَهُ فِيهَا، فَقَالَ:
    بِشْرٌ إِلَى المَجْدِ بَعِيدٌ هَمُّهُ ... لَمَّا رآهُ بِالعَرَاءِ عَمُّهُ
    قدْ ثَكِلَتْهُ نَفْسُهُ وَأُمُّهُ ... جَاشَتْ بِهِ جَائِشَةٌ تَهُمُّهُ
    قَامَ إِلَى ابْنٍ للفَلاَ يَؤُمُّهُ ... فَغَابَ فِيهِ يَدُهُ وَكُمُّهُ
    وَنَفْسُهُ نَفْسِي وَسَمِّي سَمُّهُ
    فَلَمَّا قَتَلَ الحَيَّةَ قَالَ عَمُّهُ: إِنيِّ عَرَّضْتُكَ طَمَعاً في أَمْرٍ قَدْ ثَنَى اللهُ عِنَانِي عَنْهُ، فارْجِعْ لأَزَوِّجَكَ ابْنَتِي، فَلَمَّا رَجَعَ جَعَلَ بِشرٌ يَمْلأُ فَمَهُ فَخْراً، حَتَّى طَلَعَ أَمْرَدُ كَشِقِّ القَمَرِ على فَرَسِهِ مُدَجَّجَاً في سِلاَحِهِ، فَقَالَ بِشْرٌ: يَا عَمُّ إِني أَسْمَعُ حِسَّ صَيْدٍ، وَخَرَجَ فَإِذَا بِغُلامٍ عَلى قَيْدٍ، فَقالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا بِشْرُ! أَنْ قَتَلْتَ دُودَةً وَبَهِيمَةً تمَلأُ ماضِغَيْكَ فَخْراً؟ أَنْتَ في أَمَانٍ إِنْ سلَّمْتَ عمَّكَ فَقَالَ بِشْرٌ مَنْ أَنْتَ لا ُأَّم لكَ قَالَ: اليَوْمُ الأَسْوَدُ والمَوْتُ الأَحْمَرُ، فَقالَ بِشْرٌ: ثَكِلَتْكَ مَنْ سَلَحَتْكَ، فَقالَ: يَا بِشْرُ وَمَنْ سَلَحَتْكَ، وَكَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا علَى صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَتَمكَّنْ بِشْرٌ مِنْهُ، وَأَمكَنَ الغُلاَمَ عِشْرُونَ طَعْنَةً في كُلْيَةِ بِشْرٍ، كُلَّمَا مَسَّهُ شَبَا السِّنانِ حَمَاهُ عَنْ بَدَنِهِ إبِقْاَءً عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بِشْرُ كَيْفَ تَرَى؟ أَلَيْسَ لَوْ أَرَدْتُ لأَطْعَمْتُكَ أَنْيَابَ الرُّمْحِ؟ ثُمَّ أَلْقَى رُمْحَهُ واسْتَلَّ سَيْفَهُ فَضَربَ بِشْراً عِشْرينَ ضرْبةً بِعَرْضِ السَّيْفِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ بِشْرٌ مِنْ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا بِشْرُ سَلِّمْ عَمَّكَ وَاذْهَبْ فِي أَمانٍ، قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ بِشَريطَةِ أَنْ تَقُولَ منْ أَنْتَ، فَقَالَ: أَنَا ابْنُكَ، فقالَ: يَا سُبْحَانَ اللهِ مَا قَارَنْتُ عَقِيَلةً قَطُّ فَأَنَّى لِي هَذِهِ المِنْحَةُ؟؟ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ المَرْأَةِ التِّي دَلَّتْكَ عَلى ابْنَةِ عَمِّكَ، فَقالَ بِشْرٌ:
    تِلْكَ العَصَا مِنْ هَذِهِ العُصَيَّةْ ... هَلْ تَلِدُ الحَيَّةَ إِلاَّ الحَيَّةْ!
    وَحَلَفَ لاَ رَكِبَ حِصاناً، وَلا تَزَوَّجَ حَصَاناً. ثُمَّ زَوَّجَ ابْنَةَ عَمِهِ لابْنِهِ.
    والله سبحانه وتعالى أعلى واعلم، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الرسل وإمام المتقين، وعلى أله وصحبه وسلم.
    وهذا آخر ما تيسر لنا من التعليق على مقامات أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني، والله المسئول أن يجعله عملاً مقبولاً، وأن يحسن جزاءنا عليه، إنه وحده الذي عنده الجزاء، والحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين ولا عدوان إلا على الظالمين.

    من المَقَامَةُ السَّارِيَّةُ إلى ختام الكتاب Fasel10

    تم بحمد الله تعالى
    كتاب : مقامات بديع الزمان الهمذاني
    وصلّى الله على سيدنا محمد وآله
    منتدى ميراث الرسول - البوابة
    من المَقَامَةُ السَّارِيَّةُ إلى ختام الكتاب E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس 21 نوفمبر - 13:18