من طرف توتة الخميس 20 مايو - 11:17
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة العلمية
المناظر لابن الهيثم
المقالة الثالثة
أغلاط البصر فيما يدركه على استقامة وعللها
الجزء الثالثة من الفصل السابع
● [ غلط البصر من أجل الخروج عن عرض الاعتدال ] ●
غلط البصر في القياس من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال.
[ البعد ]
وكذلك أيضاً إذا أدرك المبصر البصر في موضع مغدر أو في سواد الليل، وكان شكل المبصر شكلاً مضلعاً كثير الأضلاع، وكان ذلك المبصر صغير المقدار وكانت أقطاره مع ذلك متساوية، فإن البصر يدرك ذلك المبصر مستديراً ولا يحس بزواياه وأضلاعه. وذلك لأن المبصر الكثير الأضلاع إذا كان صغير المقدار كانت زواياه صغاراً، وإذا كانت زواياه صغاراً ولم يكن الضوء الذي عليه قوياً فإن زواياه تخفى عن البصر وإن لم تخف جملته لصغر الزوايا، ولأن المبصرات التي في غاية الصغر تخفى في المواضع المغدرة التي قد تظهر فيها المبصرات المقتدرة الحجم. فإذا كانت زوايا المبصر صغاراً وكانت أقطاره متساوية وكان في موضع شديد الغدرة، فإن البصر يدركه مستديراً ولا يحس بزواياه وأضلاعه.
وكذلك إن كان سطح المبصر كرياً أو كان فيه تحديب بأي شكل كان وكان تحديبه يسيراً، أو كان مقعراً وكان تقعيره يسيراً، وأدركه البصر في موضع مغدر شديد الغدرة أو في سواد الليل، فإنه يدركه مسطحاً ولا يحس بتحديب المحدب ولا تقعير المقعر إذا كان التحديب أو التقعير يسيراً وكان الموضع شديد الغدرة.
وإذا أدرك البصر المبصر المضلع مستديراً وأدرك المحدب والمقعر مسطحاً فهو غالط في شكل كل واحد منهما. والغلط في الوضع وفي الشكل وفي هيئات السطوح هي أغلاط في القياس لأن إدراك هذه المعاني إنما تكون بالقياس. وعلة هذه الأغلاط هو خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات المائلة والمضلعة والمحدبة والمقعرة إذا كان الضوء الذي عليها قوياً فإن البصر يدرك وضعها وشكلها ويدرك هيئات سطوحها على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
الشكل وقد يعرض الغلط في العظم أيضاً من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا نظر في سواد الليل إلى شخص قائم كنخلة أو شجرة أو حائط، وكان من وراء ذلك الشخص جبل أو جدار، وكان الشخص أقرب إلى البصر من الجبل أو الجدار، وكان بين الشخص وبين الجبل أو الجدار بعد مقتدر، فإن البصر يدرك ذلك الشخص في سواد الليل كأنه في ضمن ذلك الجبل أو الجدار أو مماس له. وذلك لأن البصر لا يدرك البعد الذي بين الشخص والجبل أو الجدار الذي وراءه في سواد الليل. وإذا كان الشخص أقرب إلى البصر من الجبل أو الجدار فإن البصر يدرك رأس ذلك الشخص مسامتاً لموضع من أعلى الجبل أو الجدار إما ذروته أو موضع من أعلاه، ويكون الموضع الذي يدركه البصر من الجبل أو الجدار مع رأس ذلك الشخص أرفع من طول الشخص وربما كان أضعافاً كثيرة لمقدار طول الشخص بحسب البعد الذي بين الشخص وبين الجدار أو الجبل. وإذا أدرك البصر طرف الشخص مع ذروة الجبل أو الجدار أو مع موضع منه أي موضع كان، وكان مع ذلك يظن بالشخص أنه مجاور للجبل أو الجدار أو ملتصق به، فإنه يظن أن طول الشخص مساو لارتفاع الموضع من الجبل أو الجدار الذي يرى طرف الشخص مسامتاً له، وربما أدرك رأس الشخص أرفع من ذروة الجبل أو الجدار فيظنه أطول منه.
وإذا ظن البصر أن طول الشخص مساو لارتفاع الجبل أو الجدار الذي يراه من ورائه الذي بينه وبينه مسافة فهو غالط في مقدار طول الشخص أو في مقدار ارتفاع الجبل أو الجدار، ويكون هذا الغلط غلطاً في القياس لأن العظم يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في الشخص وفي الجبل أو الجدار الذي وراءه عن عرض الاعتدال بالإفراط في النقصان، لأن الشخص الذي بهذه الصفة إذا أدركه البصر في ضوء النهار فإنه يدرك ارتفاعه على ما هو عليه، ويدرك ارتفاع الجبل أو الجدار على ما هو عليه، ويدرك البعد الذي بينهما على ما هو عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات في عرض الاعتدال.
[ التفرق ]
وقد يعرض الغلط في التفرق أيضاً من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن الأخشاب الجسام إذا أراد النجار أن يشق منها ألواحاً فإنه يخط فيها خطوطاً مستقيمة بالسواد في المواضع التي يريد شقها، فإذا شقها صارت مواضع الخطوط شقوقاً نافذة. فإذا أدرك البصر جسماً من هذه الأجسام قبل أن تشق وكانت الخطوط مخطوطة فيه، وأدركه البصر في موضع مغدر شديد الغدرة أو أدركه في الغلس، ولم يكن قد تقدم علم الناظر بذلك الجسم، فإنه يظن بتلك الخطوط السود أنها تفرق وشقوق، وأن ذلك الجسم هو عدة ألواح قد شقت وبعضها منطبق على بعض، لأن النجار إذا شق الألواح قد شقت وبعضها منطبق على بعض، لأن النجار إذا شق الألواح التي بهذه الصفة فإنه يبقيها على وضعها ولا يفرق بينها إلى وقت الحاجة إليها. وإذا ظن البصر بالجسم الواحد المتصل أنه عدة أجسام مضموم بعضها إلى بعض، وأن الخطوط السود التي فيه هي تفرق بين تلك الأجسام إذا كانت واحداً وهو يظنها جماعة.
وكذلك إذا أدرك البصر عدة من المبصرات في موضع مغدر شديد الغدرة أو في سواد الليل، وكانت تلك المبصرات مظلمة الألوان ومتشابهة الألوان، وكانت متضامة ومنطبقاً بعضها على بعض وكان التفرق والتماس الذي بينها ضيقاً خفياً، فإن البصر يدرك المبصرات التي بهذه الصفة كأنها جسم واحد متصل ولا يدرك التفرق الذي بينها، لأن المعاني الدقيقة والتفرق الخفي الضيق ليس يظهر للبصر في المواضع الشديدة الغدرة وفي سواد الليل. وإذا كانت ألوان تلك المبصرات مظلمة كان جملتها مظلماً ولم تتميز ظلمتها من ظلمة التفرق الخفي الذي في تضاعيفها. وإذا أدرك البصر الأجسام المتفرقة جسماً واحداً متصلاً فهو غالط فيما يدركه من اتصالها، وغالط في عددها أيضاً إذا كانت جماعة وهو يظن أنها واحد.
وكذلك إذا كانت مبصرات صقيلة شديدة الصقال وكانت متضامة ومماساً بعضها لبعض، وكان التفرق بينها ضيقاً خفياً، وكانت تلك المبصرات مع ذلك متشابهة في اللون، وكانت سطوحها متشابهة الوضع، وأشرق على هذه المبصرات ضوء الشمس، وكان البصر ينظر إلى هذه المبصرات وضوء ا لشمس منعكس من سطوحها الصقيلة إلى البصر، فإن البصر إذا أدرك المبصرات التي بهذه الصفة منعكس من سطوحها إلى البصر فإنه لا يدرك التفرق الذي فيها ويظن بها أنها جسم واحد متصل. وذلك أن سطح المبصر إذا كان صقيلاً وانعكس الضوء منه إلى البصر ليس يدرك صورة ذلك السطح إدراكاً محققاً، ولا يدرك المعاني الدقيقة التي تكون في ذلك السطح. فإن كان التفرق الذي بين المبصرات التي بهذه الصفة تفرقاً خفياً ضيقاً فإن البصر لا يدركه لانعكاس الضوء من سطوح تلك المبصرات إلى البصر. وإذا لم يدرك البصر التفرق الذي بين تلك المبصرات فهو يظن بها أنها جسم واحد متصل.
وإذا ظن البصر بالأجسام المتفرقة والمتماسة أنها جسم واحد متصل فهو غالط فيما يدركه من اتصالها وغالط في عددها. والغلط في التفرق وفي الاتصال وفي العدد هو غلط في القياس لأن التفرق والاتصال والعدد إنما يدرك بالقياس. وعلة هذه الأغلاط هو خروج الضوء الذي في هذه المبصرات عن عرض الاعتدال بالإفراط في النقصان وفي الزيادة، لأن المبصرات التي وصفناها إذا كان الضوء الذي عليها معتدلاً فإن البصر يدرك التفرق الذي فيها، ويدرك اتصال المتصل منها، ويدرك عددها، ويدرك جميع المعاني التي فيها على ما هي عليه، ولا يعرض له الغلط في شيء منها، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال.
[ الحركة ]
وقد يعرض الغلط في الحركة أيضاً من أجل نقصان الضوء. وذلك أن البصر إذا أدرك في سواد الليل شخصاً قائماً على وجه الأرض، وكان ذلك الشخص ثابتاً في موضعه غير متحرك، وكان من وراء ذلك الشخص جبل أو جدار، وكان بين ذلك الشخص وبين الجبل والجدار بعد ما ليس بالمتفاوت، وكان الشخص في حال إدراك البصر له مسامتاً لطرف الجبل أو الجدار، ثم تحرك الناظر نحو الجهة التي فيها ذلك الجبل أو الجدار على مسافة مائلة متباعدة ميلها عن الشخص لا في جهة الشخص، وهو مع ذلك يدرك الشخص ويدرك طرف الجبل والجدار المسامت للشخص، فإن الناظر إذا تمادى في الحركة على هذه الصفة فإن وضع ذلك الشخص يميل، ويصير خط الشعاع المتوهم بينه وبين البصر إذا امتد على استقامة لا ينتهي إلى طرف الجبل أو الجدار بل يكون مفارقاً له. وإذا انتهى البصر إلى هذا الموضع، وهو يدرك ذلك الشخص ويدرك طرف الجبل أو الجدار، فإنه يدرك بين الشخص وبين طرف الجبل أو الجدار تفرقاً ما وتظهر له السماء من ذلك التفرق. وليس يدرك البصر في تلك الحال حقيقة مقدار البعد الذي بين الشخصين وبين الجبل أو الجدار، ولا يدرك حقيقة وضع الشخص من ذلك الجبل أو الجدار، وإن لم يكن الشخص متفاوت البعد عن البصر، لظلمة الليل وضعف الضوء الذي على وجه الأرض في سواد الليل. ثم إذا تمادى الناظر في الحركة اتسع ذلك التفرق الذي يظهر له بين ذلك الشخص وبين الجبل أو الجدار، وأدركه البصر متمادياً في الاتسساع إذا كان الناظر متمادياً في الحركة، وهو مستقر في النفس أن الجبل أو الجدار ليس يتحرك. وإذا لم يتقدم علم الناظر بذلك الشخص وثبوته في موضعه فإنه ربما ظن بذلك الشخص أنه متحرك، وأن اتساع التفرق الذي يظهر بينه وبين الجبل أو الجدار وتماديه في الاتساع إنما هو للحركة. وإذا أدرك البصر الشخص الساكن متحركاً فهو غالط فيما يدركه من حركته.
السكون وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً من أجل نقصان الضوء. وذلك أن البصر إذا أدرك في سواد الليل حجر الرحى وهو متحرك فإنه لا يحس بحركته بل يدركه كأنه ساكن. وكذلك إذا أدرك في الليل وفي الغلس جسماً متشابه الأجزاء من بعد، وهو يتحرك حركة مستديرة أو يضطرب أو يرتعد، فإنه لا يحس بحركته بل يدركه كأنه ساكن. وإذا أدرك البصر الجسم المتحرك ساكناً فهو غالط في سكونه. والغلط في الحركة وفي السكون جميعاً هما غلطان في القياس، لأن الحركة والسكون يدركان بالقياس، لأن الحركة والسكون يدركان بالقياس. وعلة هذين الغلطين هو خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال بالإفراط في النقصان، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر في الضوء المعتدل فإنه يدرك حركاتها وسكونها على ما هي عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي فيها عرض الاعتدال.
[ الخشونة والملاسة ]
وقد يعرض الغلط في الخشونة والملاسة أيضاً من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصرات التي يدركها البصر في المواضع المغدرة وفي سواد الليل إذا كانت سطوحها خشنة وكانت الخشونة التي فيها يسيرة فإنه لا يدرك خشونتها. وكذلك المبصرات التي في سطوحها ملس صقيلة ليس يدرك البصر ملاستها وصقالها في المواضع المغدرة، ولا يفرق البصر بين السطوح الخشنة وبين السطوح الملس إذا أدركها في المواضع المغدرة وفي الغلس وفي سواد الليل. وإذا لم يحس البصر بالملاسة والخشونة فإنه ربما ظن بالأملس أنه خشن وبالخشن أنه أملس إذا شبه ذلك المبصر بمبصر آخر يشبهه في المعاني الظاهرة ويخالفه في الملاسة والخشونة. وإذا ظن البصر بالمبصر الأملس انه خشن فهو غالط في خشونته، وإذا ظن بالخشن أنه أملس فهو غالط في ملاسته.
وكذلك أيضاً إذا أدرك البصر الجسم المشف، وأدرك الضوء من ورائه، وكان الضوء الذي يظهر من ورائه يسيراً، فإنه يدرك شفيف ذلك الجسم دون شفيفه الحقيقي، وإذا أدرك شفيف الجسم دون شفيفه الحقيقي فهو غالط في شفيفه. وإذا أدرك البصر الجسم المشف في موضع مغدر شديد الغدرة فإنه لا يدرك شفيفه، وإذا لم يدرك شفيفه فإنه يظنه كثيفاً إذا لم يتقدم علم الناظر بشفيفه. وإذا ظن البصر بالمشف انه كثيف فهو غالط في كثافته.
والغلط في الخشونة والملاسة وفي الشفيف والكثافة هي أغلاط في القياس لأن الخشونة والشفيف والكثافة إنما تدرك بالقياس. وعلة هذه الغلاط على الصفات التي وصفناها هي خروج الضوء الذي في هذه المبصرات عن عرض الاعتدال بالإفراط في النقصان، لأن هذه المبصرات إذا أدركها البصر في ضوء معتدل فإنه يدرك الخشونة في الخشن منها ويدرك الملاسة في الأملس منها، ويدرك الشفيف في المشف على ما هو عليه ويدرك كثافة الكثيف، ولا يعرض له الغلط في شيء من هذه المعاني إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات في عرض الاعتدال.
[ الظل ]
وقد يعرض الغلط في الظل أيضاً من اجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك انه إذا كان في بيت من البيوت حائط، وكان بعض ذلك الحائط أبيض أو ذا لون مسفر وكان بعضه أسود أو ذا لون مظلم، وكان الفصل الذي بين جزءي الحائط الذي بهذه الصفة ممتداً في ارتفاع الحائط وذلك يكون في الحيطان التي توقد النار في فنائها دائماً فيسود بعضها بالدخان. وإذا كان الحائط الذي بهذه الصفة في صدر بيت وكان باب البيت مقابلاً لذلك الحائط، وكان خارج البيت سراج في ظلمة الليل وكان السراج مقابلاً لباب البيت وبعيداً عنه، ودخل ضوء السراج من باب البيت وأشرق على ذلك الحائط من بعد، وحصل الضوء على بعض الجزء الأبيض وبعض الجزء الأسود، وكان الضوء ضعيفاً من أجل بعد السراج، ونظر البصر إلى ذلك الحائط الذي بهذه الصفة، فإنه ربما ظن بالجزء الأسود الذي عليه الضوء انه ظل إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بسواد ذلك الموضع. وذلك لأن الحائط المقابل لباب البيت قد جرت العادة أن يستظل بالحائط المقابل له الذي فيه باب البيت، وإذا كان الضوء الذي على الحائط ضعيفاً فليس يتميز للبصر السواد من الظلمة، وخاصة إذا كان الجزء من الحائط المجاور لهذا الجزء أبيض أو مسفر اللون. والبصر من شأنه أن يشبه ما يدركه في الحال بما قد أدركه من أمثاله من قبل، فلذلك ربما ظن بالحائط الأسود والمظلم اللون المجاور للموضع الأبيض والمسفر اللون انه مستظل، مع إشراق ضوء السراج عليه، إذا كان الضوء ضعيفاً، وإذا أدرك البصر الجسم المضيء الذي لا ظل عليه مستظلاً فهو غالط فيما يدركه من الظل.
وكذلك إذا أدرك البصر في سواد الليل حائطاً أبيض، وكان في ذلك الحائط مواضع سود، وكان على ذلك الحائط ضوء خفي من ضوء مصباح، فإنه ربما ظن بالمواضع السود التي يدركها في ذلك الحائط أنها كوى وثقوب، وان السواد الذي يظهر فيها هو ظلمة تلك الثقوب.
وإذا ظن البصر بالجسم المصمت الأسود أنه مكان خال مظلم فهو غالط فيما يدركه من ظلمته. والغلط في الظل والظلمة هو غلط في القياس، لأن الظل والظلمة تدركان بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال، لأن هذه المبصرات إذا أدركها البصر في ضوء معتدل، ومن ذلك البعد بعينه، فإنه يدركها على ما هي عليه ولا يعرض له الغلط في ظل ما ليس بمستظل ولا في ظلمة ما ليس هو مظلماً، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات في عرض الاعتدال.
[ الحسن ]
وقد يعرض الغلط في الحسن أيضاً من أجل خروج الضوء الذي وفي المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر الحسن الصورة إذا كانت فيه معان تشينه، ولم تكن تلك المعاني بكل الظاهرة بل كان فيها بعض اللطافة أو بعض الخفاء، وأدرك البصر ذلك المبصر في الليل وقد أشرق على ذلك المبصر ضوء مصباح ضعيف الضوء، فإن البصر يدرك المبصر الذي بهذه الصفة حسن الصورة ولا يدرك شيئاً من معانيه التي تشينه. وأمثال ذلك شخص جوارحه حسنة الصورة في أشكالها وهيئاتها وفيه مع ذلك زرقة في عينيه أو شقرة في شعره أو كلف في وجهه أو آثار قروح أو نمش في بشرته أو مجموع ذلك أو مجموع بعضه. وكل واحد من هذه المعاني يشين صورة الإنسان ويقبح محاسنه. فإذا أدرك البصر إنساناً بهذه الصفة في الليل وفي ضوء مصباح ليس بقوي الضوء فإنه يدرك هيئة أعضائه وأشكال جوارحه المقبولة الحسنة الجملة، ولا يدرك مع ذلك ما في جوارحه من الآثار، ولا الشقرة والزرقة اللواتي تشينه وتقبح صورته لضعف الضوء ولأن المعاني اللطيفة ليس يدركها البصر إلا في ضوء قوي. وما أكثر ما يستحسن البصر في ضوء السراج إذا كان ضعيفاً وفي المواضع المغدرة أشخاصاً ليست بمستحسنة. وكذلك جميع المبصرات التي محاسنها ظاهرة ومعانيها التي تشينها وتقبحها خفية وليست بكل البينة يدرك البصر محاسنها ولا يدرك مقابحها. وإذا أدرك البصر محاسن الصورة ولم يدرك مقابحها فإنه يدركها حسنة ولا يحكم لها بشيء من القبح. وإذا أدرك البصر الصور المشينة حسنة فهو غالط في حسنها.
وكذلك إذا أدرك البصر في الليل وفي الضوء الخفي وفي المواضع المغدرة المبصرات التي معانيها الظاهرة قبيحة وغير مستحسنة ومحسنة لجملة الصورة، فإنه يدركها قبيحة غير مستحسنة ولا يحكم لها بشيء من الحسن إذا لم يدرك المحاسن اللطيفة التي فيها.
وإذا أدرك البصر الصورة الحسنة قبيحة فهو غالط في قبحها. والغلط في الحسن وفي القبح هو غلط في القياس لأن الحسن والقبح يدركان بالقياس، ولأن هذا الغلط الذي على هذه الصفة إنما يكون لتعويل البصر على المعاني الظاهرة فقط وسكونه إلى نتائجها من غير اعتبار بما يجوز أن يخفى في الحال عن البصر من المعاني. وعلة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر في الضوء المعتدل فإنه يدرك محاسن المستحسن منها ويدرك معايب المستقبح، ولا يعرض له الغلط في حسن المستحسن ولا في قبح المستقبح، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات في عرض الاعتدال.
[ التشابه والاختلاف ]
وعلى هذه الصفة بعينها قد يعرض للبصر الغلط في التشابه والاختلاف أيضاً. وذلك أن البصر إذا أدرك شخصين في موضع مغدر أو في ضوء سراج ضعيف الضوء، وكان ذانك الشخصان متشابهين في المعاني الظاهرة التي هي اللون والشكل والهيئة وأشكال أجزاء المبصر، وكان الشخصان مع ذلك مختلفين في معان لطيفة كالزرقة والشهلة والشقرة والنمش والكلف والآثار في أشخاص الناس وكالنقوش والتخاطيط اللطيفة في الثياب والفروش وسائر الآلات وسائر الجمادات، فإن البصر يدرك الشخصين الذين بهذه الصفة متشابهين ولا يحكم لهما بشيء من الاختلاف، لأنه لا يدرك المعاني اللطيفة التي فيهما في الموضع المغدر وفي الضوء الضعيف التي بها يختلفان. وإذا أدرك البصر الشخصين المختلفين متشابهين على الإطلاق ولم يحكم لهما بشيء من الاختلاف فهو غالط في تشابههما.
وكذلك إذا كان الشخصان مختلفين في المعاني الظاهرة، أعني في اللون والشكل والعظم وفي الهيئة وفي أشكال الأجزاء وهيئاتها، وكانا مع ذلك متشابهين في المعاني اللطيفة، فإن البصر إذا أدركهما في موضع مغدر وفي ضوء ضعيف فإنه يدرك الشخصين اللذين على هذه الصفة مختلفين على الإطلاق وغير متشابهين ولا يحكم لهما بشيء من التشابه إذا لم يدرك المعاني اللطيفة التي يتشابهان فيها. وإذا أدرك البصر الشخصين المتشابهين مختلفين ولم يحكم لهما بشيء من التشابه فهو غالط في اختلافهما.
والغلط في التشابه والاختلاف هو غلط في القياس، لأن التشابه والاختلاف يدركان بالقياس، ولأن هذا الغلط إنما هو لتعويل البصر على المعاني الظاهرة فقط وسكونه إلى نتائجها. وعلة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في هذه المبصرات عن عرض الاعتدال بالنقصان، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر في ضوء معتدل فإنه يدرك المتشابه منها متشابهاً والمختلف مختلفاً، ولا يعرض له الغلط في تشابه المتشابه ولا في اختلاف المختلف، إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج الضوء الذي في المبصرات عن عرض الاعتدال.
كتاب : المناظر ● تأليف : ابن الهيثم
منتدى نافذة ثقافية . البوابة