الأحداث فى سنة إحدى وستين
توتة- Admin
- عدد المساهمات : 2017
تاريخ التسجيل : 13/02/2014
- مساهمة رقم 1
الأحداث فى سنة إحدى وستين
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
وسار الحسين من شراف، فلما انتصف النهار كبر رجلٌ من أصحابه، فقال له: مم كبرت؟ قال: رأيت النخل. فقال رجلان من بني أسد: ما بهذه الأرض نخلة قط! فقال الحسين: فما هو؟ فقالا: لا نراه إلا هوادي الخيل. فقال: وأنا أيضاً أره ذلك. وقال لهما: أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقالا: بلى، هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد. فمال إليه، فما كان بأسرع من أن طلعت الخيل وعدلوا إليهم، فسبقهم الحسين إلى الجبل فنزل، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي ثم اليربوعي، فوقفوا مقابل الحسين وأصحابه في نحر الظهيرة، فقال الحسين لأصحابه وفتيانه: اسقوا القوم ورشفوا الخيل ترشيفاً. ففعلوا، وكان مجيء القوم من القادسية، أرسلهم الحصين بن نمير التميمي في هذه الألف يستقبل الحسين، فلم يزل مواقفاً الحسين حتى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين مؤذنه بالأذان، فأذن، وخرج الحسين إليهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنها معذرة إلى الله وإليكم، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أن اقدم إلينا فليس لنا إمام لعل الله أن يجعلنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا أو كنتم بمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه.
توتة- Admin
- عدد المساهمات : 2017
تاريخ التسجيل : 13/02/2014
- مساهمة رقم 2
تابع الأحداث فى سنة إحدى وستين
وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري وشوذب مولى شاكر إلى الحسين فسلما عليه وتقدما فقاتلا فقتل شوذب، وأما عابس فطلب البراز فتحاماه الناس لشجاعته، فقال لهم عمر: ارموه بالحجارة، فرموه من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره وحمل على الناس فهزمهم بين يديه، ثم رجعوا عليه فقتلوه وادعى قتله جماعةٌ.
وجاء الضحاك بن عبد الله المشرفي إلى الحسين فقال: يا ابن رسول الله قد علمت أني قلت لك إني أقاتل عنك ما رأيت مقاتلاً، فإذا لم أر مقاتلاً فأنا في حل من الإنصراف. فقال له الحسين: صدقت، وكيف لك بالنجاء؟ إن قدرت عليه فأنت في حل. قال: فأقبلت إلى فرسي، وكنت قد تركته في خباء حيث رأيت خيل أصحابنا تعقر، وقاتلت راجلاً وقتلت رجلين وقطعت يد آخر، ودعا إلى الحسين مراراً، قال: واستخرجت فرسي واستويت عليه وحملت على عرض القوم فأفرجوا لي وتبعني منهم خمسة عشر رجلاً ففتهم وسلمت.
وجثا أبو الشعثاء الكندي، وهو يزيد بن أبي زياد، بين يدي الحسين، فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم، وكلما رمى يقول له الحسين: اللهم سدد رميته واجعل ثوابه الجنة! وكان يزيد هذا فيمن خرج مع عمر بن سعد، فلما ردوا الشروط على الحسين عدل إليه فقاتل بين يديه، وكان أول من قتل.
وأما الصيداوي عمرو بن خالد وجبار بن الحارث السلماني وسعد مولى عمرو بن خالد ومجمع بن عبيد الله العائذي فإنهم قاتلوا أول القتال، فلما وغلوا فيهم عطفوا إليهم فقطعوهم عن أصحابهم، فحمل العباس بن علي فاستنقذهم وقد جرحوا، فلما دنا منهم عدوهم حملوا عليهم فقاتلوا فقتلوا في أول الأمر في مكان واحد.
وكان آخر من بقي من أصحاب الحسين سويد بن أبي المطاع الخثعمي، وكان أول من قتل من آل بني أبي طالب يومئذٍ علي الأكبر ابن الحسين، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفية، وذلك أنه حمل عليهم وهو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي ... نحن ورب البيت أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي
ففعل ذلك مراراً، فحمل عليه مرة بن منقذ العبدي فطعنه فصرع وقطعه الناس بسيوفهم، فلما رآه الحسين قال: قتل الله قوماً قتلوك! يا بني ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفاء! وأقبل الحسين إليه ومعه فتيانه فقال: احملوا أخاكم، فحملوه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.
ثم إن عمرو بن صبيح الصدائي رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفه على جبهته فلم يستطع أن يحركها ثم رماه بسهم آخر فقتله.
وحمل الناس عليهم من كل جانب، فحمل عبد الله بن قطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر فقتله، وحمل عثمان بن خالد بن أسير الجهني وبشر بن سوط الهمداني على عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب فقتلاه، ورمى عبد الله بن عروة الخثعمي جعفر بن عقيل فقتله. ثم حمل القاسم بن الحسن بن علي وبيده السيف، فحمل عليه عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي فضرب رأسه بالسيف فسقط القاسم إلى الأرض لوجهه وقال: يا عماه! فانقض الحسين إليه كالصقر ثم شد شدة ليث أغضب فضرب عمراً بالسيف فاتقاه بيده فقطع يده من المرفق فصاح، وحملت خيل الكوفة ليستنقذوا عمراً فاستقبلته بصدورها وجالت عليه فوطئته حتى مات، وانجلت الغبرة والحسين واقف على رأس القاسم وهو يفحص برجليه والحسين يقول: بعداً لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك! ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك صوته، والله هذا يوم كثر واتره وقل ناصره! ثم احتمله على صدره حتى ألقاه مع ابنه علي ومن قتل معه من أهل بيته.
ومكث الحسين طويلاً من النهار كلما انتهى إليه رجل من الناس رجع عنه وكره أن يتولى قتله وعظم إثمه عليه، ثم إن رجلاً من كندة يقال له مالك بن النسير أتاه فضربه على رأسه بالسيف فقطع البرنس وأدمى رأسه وامتلأ البرنس دماً، فقال له الحسين: لا أكلت بها ولا شربت وحشرك الله مع الظالمين! وألقى البرنس ولبس القلنسوة، وأخذ الكندي البرنس، فلما قدم على أهله أخذ البرنس يغسل الدم عنه، فقالت له امرأته: اسلب ابن بنت رسول الله تدخل بيتي؟ أخرجه عني! قال: فلم يزل ذلك الرجل فقيراً بشر حتى مات.
ودعا الحسين بابنه عبد الله وهو صغير فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد فذبحه، فأخذ الحسين دمه فصبه في الأرض ثم قال: ربي إن تكن حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم من هؤلاء الظالمين.
ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بن علي بسهم فقتله، وقال العباس بن علي لإخوته من أمه عبد الله وجعفر وعثمان: تقدموا حتى أرثكم فإنه لا ولد لكم. ففعلوا فقتلوا، وحمل هانىء بن ثبيت الحضرمي على عبد الله بن علي فقتله، ثم حمل على جعفر بن علي فقتله، ورمى خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي، ثم حمل عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله وجاء برأسه، ورمى رجل من بني أبان أيضاً محمد بن علي بن أبي طالب فقتله وجاء برأسه.
وخرج غلام من خباء من تلك الأخبية فأخذ بعود من عيدانه وهو ينظر كأنه مذعور، فحمل عليه رجل قيل إنه هانىء بن ثبيت الحضرمي فقتله.
واشتد عطش الحسين فدنا من الفرات ليشرب فرماه حصين بن نمير بسهم فوقع في فمه فجعل يتلقى الدم بيده ورمى به إلى السماء، ثم حم الله وأثنى عليه ثم قال: اللهم إني أشكو إليك ما يصنع بابن بنت نبيك! اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً! قيل الذي رماه رجل من بني أبان بن دارم، فمكث ذلك الرجل يسيراً ثم صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى فكان يروح عنه ويبرد له الماء فيه السكر وعساس فيها اللبن ويقول: اسقوني، فيعطى القلة أو العس فيشربه، فإذا شربه اضطجع هنيهةً ثم يقول: اسقوني قتلني الظمأ، فما لبث إلا يسيراً حتى انقدت بطنه انقداد بطن البعير.
ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفر نحو عشرة من رجالهم نحو منزل الحسين فحالوا بينه وبين رحله، فقال لهم الحسين: ويلكم! إن لم يكن لكم دين ولا تخافون يوم المعاد فكونوا أحراراً ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم. فقالوا: ذلك لك يا ابن فاطمة. وأقدم عليه شمر بالرجالة منهم: أبو الجنوب، واسمه عبد الرحمن الجعفي، والقشعم بن نذير الجعفي، وصالح بن وهب اليزني، وسنان بن أنس النخعي، وخولي بن يزيد الأصبحي، وجعل شمر يحرضهم على الحسين وهو يحمل عليهم فينكشفون عنه، ثم إنهم أحاطوا به. وأقبل إلى الحسين غلام من أهله فقام إلى جنبه وقد أهوى بحر بن كعب بن تيم الله بن ثعلبة إلى الحسين بالسيف، فقال الغلام: يا ابن الخبيثة أتقتل عمي! فضربه بالسيف، فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلى الجلدة، فنادى الغلام: يا أمتاه! فاعتنقه الحسين وقال له: يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك فإن الله يلحقك بآبائك الطاهرين الصالحين، برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعلي وحمزة وجعفر والحسن. وقال الحسين: اللهم أمسك عنهم قطر السماء وامنعهم بركات الأرض! اللهم فإن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً واجعلهم طرائق قدداً ولا ترض عنهم الولاة أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا! ثما ضارب الرجالة حتى انكشفوا عنه.
ولما بقي الحسين في ثلاثة أو أربعة دعا بسراويل ففزره ونكثه لئلا يسلبه، فقال له بعضهم: لو لبست تحته التبان. قال: ذلك ثوب مذلة ولا ينبغي لي أن ألبسه. فلما قتل سلبه بحر بن كعب، وكان يداه في الشتاء تنضحان بالماء، وفي الصيف تيبسان كأنهما عود. وحمل الناس عليه عن يمينه وشماله، فحمل على الذين عن يمينه فتفرقوا، ثم حمل على الذين عن يساره فتفرقوا، فما رؤي مكثور قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أرط جأشاً منه ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه، إن كانت الرجالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب.
فبينما هو كذلك إذ خرجت زينب وهي تقول: ليت السماء انطبقت على الأرض! وقد دنا عمر بن سعد، فقالت: يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فدمعت عيناه حتى سالت دموعه على خديه ولحيته وصرف وجهه عنها.
وكان على الحسين جبة من خز، وكان معتماً مخصوباً بالوسمة، وقاتل راجلاً قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية ويفترص العورة ويشد على الخيل وهو يقول: أعلى قتلي تجتمعون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله الله أسخط عليكم لقتله مني! وايم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون! أما والله لوقتلتموني لألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم ثم لا يرضى بذلك منكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم.
قال: ومكث طويلاً من النهار، ولو شاء الناس أن يقتلوه لقتلوه ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء، فنادى شمر في الناس: ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم! فحملوا عليه من كل جانب، فضرب زرعة بن شريك التميمي على كفه اليسرى، وضرب أيضاً على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو يقوم ويكبو، وحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع، وقال لخولي بن يزيد الأصبحي: احتز رأسه، فأراد أن يفعل فضعف وأرعد، فقال له سنان: فت الله عضدك! ونزل إليه فذبحه واحتز رأسه فدفعه إلى خولي، وسلب الحسين ما كان عليه، فأخذ سراويله بحر بن كعب وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته، وهي من خز، فكان يسمى بعد قيس قطيفة، وأخذ نعليه الأسود الأودي، وأخذ سيفه رجل من دارم، ومال الناس على الفرش والحلل والإبل فانتهبوها، ونهبوا ثقله ومتاعه وما على النساء حتى إن كانت المرأة لتنزع ثوبها من ظهرها فيؤخذ منها.
ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة غير الرمية.
وأما سويد بن المطاع فكان قد صرع فوقع بين القتلى مثخناً بالجراحات، فسمعهم يقولون: قتل الحسين! فوجد خفةً فوثب ومعه سكين، وكان سيفه قد أخذ، فقاتلهم بسكينة ساعة ثم قتل، قتله عروة بن بطان الثعلبي وزيد بن رقاد الجنبي، وكان آخر من قتل من أصحاب الحسين.
ثم انتهوا إلى علي بن الحسين زين العابدين، فأراد شمر قتله، فقال له حميد بن مسلم: سبحان الله أتقتل الصبيان! وكان مريضاً، وجاء عمر بن سعد فقال: لا يدخلن بيت هذه النسوة أحد ولا يعرضن لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شيئاً فليرده، فلم يرد أحد شيئاً. فقال الناس لسنان بن أنس النخعي: قتلت الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قتلت أعظم العرب خطراً، أراد أن يزيل ملك هؤلاء، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم فإنهم لو أعطوك بيوت أموالهم في قتله كان قليلاً. فأقبل على فرسه، وكان شجاعاً شاعراً به لوثة، حتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد ثم نادى بأعلى صوته:
أوقر ركابي فضةً وذهبا ... إني قتلت السيد المحجبا
قتلت خير الناس أماً وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فقال عمر بن سعد: أشهد إنك مجنون، أدخلوه علي. فلما دخل حذفه بالقضيب وقال: يا مجنون أتتكلم بهذا الكلام. والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك! وأخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرىء القيس الكلبية امرأة الحسين، فقال: ما أنت؟ فقال: أنا عبد مملوك. فخلى سبيله، فلم ينج منهم غيره وغير المرقع بن ثمامة الأسدي، وكان قد نثر نبله فقاتل، فجاء نفر من قومه فآمنوه فخرج إليهم، فلما أخبر ابن زياد خبره نفاه إلى الزرارة.
ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب إلى الحسين فيوطئه فرسه، فانتدب عشرة، منهم إسحاق بن حيوة الحضرمي، وهو الذي سلب قميص الحسين، فبرص بعد، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى روا ظهره وصدره.
وكان عدة من قتل من أصحبا الحسين اثنين وسبعين رجلاً.
ودفن الحسين وأصحابه أهل الغاضرية من بني أسد بعد قتلهم بيوم.
وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلاً سوى الجرحى فصلى عليهم عمر ودفنهم.
ولما قتل الحسين أرسل رأسه ورؤوس أصحابه إلى ابن زياد مع خولي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي، فوجد خولي القصر مغلقاً فأتى منزله فوضع الرأس تحت إجانة في منزله ودخل فراشه وقال لامرأته النوار: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار. فقالت: ويلك! جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبداً! وقامت من الفراش فخرجت إلى الدار، قالت: فما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجانة، ورأيت طيراً أبيض يرفرف حولها. فلما أصبح غدا بالرأس إلى ابن زياد.
وقيل: بل الذي حمل الرؤوس كان شمر وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعروة بن قيس، فجلس ابن زياد وأذن للناس فأحضرت الرؤوس بين يديه وهو ينكت بقضيب بين ثنيته ساعة، فلما رآه زيد بن الأرقم لا يرفع قضيبه قال: أعل هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غره لقد رأيت شفتي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على هاتين الشفتين يقبلهما! ثم بكى، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك! فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. فخرج وهو يقول: أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعداً لمن يرضى بالذل! فأقام عمر بعد قتله يومين ثم ارتحل إلى الكوفة وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان، وعلي بن الحسين مريض، فاجتازوا بهم على الحسين وأصحابه صرعى، فصاح النساء ولطمن خدودهن، وصاحت زينب أخته: يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء! هذا الحسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا! فأبكت كل عدو وصديق.
فلما أدخلوهم على ابن زياد لبست زينب أرذل ثيابها وتنكرت وحفت بها إماؤها، فقال عبيد الله: من هذه الجالسة؟ فلم تكلمه، فقال ذلك ثلاثاً وهي لا تكلمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة. فقال لها ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم! فقالت زينب: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيراً، لا كما تقول أنت، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر. فقال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده. فغضب ابن زياد وقال: قد شفى الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت وقالت: لعمري لقد كان أبوك شجاعاً! فقالت: ما للمرأة والشجاعة! ولما نظر ابن زياد إلى علي بن الحسين قال: ما اسمك؟؛ قال: علي بن الحسين. قال: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟ فسكت. فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: كان لي أخ يقال له أيضاً عليٌّ فقتله الناس. فقال: إن الله قتله. فسكت عليٌّ. فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) الزمر: 42، (وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله) آل عمران: 145. قال: أنت والله منهم. ثم قال لرجل: ويحك! انظر هذا هل أدرك؟ إني لأحسبه رجلاً. قال: فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري فقال: نعم قد أدرك. قال: اقتله. فقال علي: من توكل بهذه النسوة؟ وتعلقت به زينب فقالت: يا ابن زياد حسبك منا، أما رويت من دمائنا، وهل أبقيت منا أحداً! واعتنقته وقالت: أسألك بالله إن كنت مؤمناً إن قتلته لما قتلتني معه! وقال له علي: يا ابن زياد إن كانت بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلاً تقياً يصحبهن بصحبة الإسلام. فنظر إليها ساعة ثم قال: عجباً للرحم! والله إني لأظنها ودت لو أني قتلته أني قتلتها معه، دعوا الغلام ينطلق مع نسائه.
ثم نادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر فخطبهم وقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته.
فوثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ثم الوالبي، وكان ضريراً قد ذهب إحدى عينيه يوم الجمل مع علي والأخرى بصفين معه أيضاً، وكان لا يفارق المسجد يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف، فلما سمع مقالة ابن زياد قال: يا ابن مرجانة! إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه! يا ابن مرجانة أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين؟ فقال: علي به. فأخذوه، فنادى بشعار الأزد: يا مبرور! فوثب إليه فتية من الأزد فانتزعوه، فأرسل إليه من أتاه به فقتله وأمر بصلبه في المسجد، فصلب، رحمه الله.
وأمر ابن زياد برأس الحسين فطيف به في الكوفة، وكان رأسه أول رأس حمل في الإسلام على خشبة في قول، والصحيح أن أول راس حمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق.
ثم أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى الشام إلى يزيد ومعه جماعة، وقيل: مع شمر وجماعة معه، وارسل معه النساء والصبيان، وفيهم علي بن الحسين، قد جعل ابن زياد الغل في يديه ورقبته، وحملهم على الأقتاب، فلم يكلمهم علي بن الحسين في الطريق حتى بلغوا الشام، فدخل زحر بن قيس على يزيد، فقال: ما وراءك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله وبنصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن ينزلوا على حكم الأمير عبيد الله أو القتال فاختاروا القتال فعدونا عليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم جعلوا يهربون إلى غير وزر، ويلوذون بالإكام والحفر، كما لاذ الحمائم من صقر، فوالله ما كان إلا جزر جزور، أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم! فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقي سبسب.
قال: فدمعت عينا يزيد وقال: كنت أرضى من طاغيتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية! أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين! ولم يصله بشيءٍ.
وقيل: إن آل الحسين لما وصلوا إلى الكوفة حبسهم ابن زياد وأرسل إلى يزيد بالخبر، فبينما هم في الحبس إذ سقط عليهم حجر فيه كتاب مربوط وفيه: إن البريد سار بأمركم إلى يزيد فيصل يوم كذا ويعود يوم كذا، فإن سمعتم النكير فأيقنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان. فلما كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجر قد ألقي وفيه كتاب يقول فيه: أوصوا واعهدوا فقد قارب وصول البريد. ثم جاء البريد بأمر يزيد بإرسالهم إليه، فدعا ابن زياد محفر بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن وسيرهما بالثقل والرأس، فلما وصلوا إلى دمشق ندى محفر بن ثعلبة على باب يزيد: جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم! فقال يزيد: ما ولدت أم محفر ألأم وأحمق منه، ولكنه قاطع ظالم.
ثم دخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه، فسمعت الحديث هندٌ بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وكانت تحب يزيد، فتقنعت بثوبها وخرجت فقالت: يا أمير المؤمنين أرأس الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فأعولي عليه وحدي على ابن بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصريحة قريش، عجل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله! ثم أذن للناس فدخلوا عليه والرأس بين يديه ومعه قضيب وهو ينكت به ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام:
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواضب في أيماننا تقطر الدما
يفلقن هاماً من رجالٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقال أبو برزة الأسلمي: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟ أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً، لربما رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يرشفه، أما إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمد شفيعه. ثم قام فولى.
فقال يزيد: والله يا حسين لو كنت أنا صاحبك ما قتلتك. ثم قال: أتدرون من أين أتى هذا؟ قال: أبى علي خير من أبيه، وفاطمة أمير خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه وأحق بهذا الأمر منه؛ فأما قوله أبوه خير من أبي فقد حاج أبي أباه إلى الله وعلم الناس أيهما حكم له؛ وأما قوله أمي خير من أمه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من أمي؛ وأما قوله جدي رسول الله خير من جده فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلاً ولا نداً، ولكنه إنما أتي من قبل فقهه، ولم يقرأ: (قل اللهم مالك الملك) آل عمران: 26.
ثم أدخل نساء الحسين عليه والرأس بين يديه، فجعلت فاطمة وسكينة ابنتا الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس. فلما رأين الرأس صحن، فصاح نساء يزيد وولول بنات معاوية. فقالت فاطمة بنت الحسين، وكانت أكبر من سكينة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟ فقال: يا ابنة أخي أنا لهذا كنت أكره. قالت: والله ما ترك لنا خرص. فقال: ما أتى إليكن أعظم مما أخذ منكن. فقام رجل من أهل الشام فقال: هب لي هذه، يعني فاطمة، فأخذت بثياب أختها زينب، وكانت أكبر منها، فقالت زينب: كذبت ولؤمت، ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال: كذبت والله، إن ذلك لي ولو شئت أن أفعله لفعلته. قالت: كلا والله ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا. فغضب يزيد واستطار ثم قال: إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك! قالت زينب: بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك. قال: كذبت يا عدوة الله! قالت: أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك؟ فاستحى وسكت، ثم أخرجن وأدخلن دور يزيد، فلم تبق امرأة من آل يزيد إلا أتتهن وأقمن المأتم وسألهن عما أخذ منهن فأضعفه لهن، فكانت سكينة تقول: ما رأيت كافراً بالله خيراً من يزيد بن معاوية.
ثم أمر بعلي بن الحسين فأدخل مغلولاً فقال: لو رآنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مغلولين لفك عنا. قال: صدقت. وأمر بفك غله عنه. فقال عليٌّ: لو رآنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعداء لأحب أن يقربنا. فأمر به فقرب منه، وقال له يزيد: إيه يا علي بن الحسين، أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت. فقال علي: (ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسيرٌ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ) الحديد: 22 - 23. فقال يزيد: (ما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم) الشورى: 30. ثم سكت عنه وأمر بإنزاله وإنزال نسائه في دار علي جده، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا دعا علياً إليه، فدعاه ذات يوم ومعه عمرو بن الحسن، وهو غلام صغير، فقال لعمرو: أتقاتل هذا؟ يعني خالد بن يزيد، فقال عمرو: أعطني سكيناً وأعطه سكيناً حتى أقاتله. فضمه يزيد إليه وقال: شنشنةٌ أعرفها من أخزم، هل تلد الحية إلا حية! وقيل: ولما وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسره ما فعل، ثم لم يلبث إلا يسيراً حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبهم، فندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما علي لو احتملت الأذى وأنزلت الحسين معي في داري وحكمته فيما يريد وإن كان علي في ذلك وهنٌ في سلطاني حفظاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورعاةً لحقه وقرابته، لعن الله ابن مرجانة فإنه اضطره، وقد سأله أن يضع يده في يدي أو يلحق بثغر حتى يتوفاه الله، فلم يجبه إلى ذلك فقتله، فبغضني بقتله إلى المسلمين، وزرع في قلوبهم العداوة، فأبغضني البر والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين، ما لي ولابن مرجانة، لعنه الله وغضب عليه! ولما أراد أن يسيرهم إلى المدينة أمر يزيد النعمان بن بشير أن يجهزهم بما يصلحهم ويسير معهم رجلاً أميناً من أهل الشام ومعه خيل يسير بهم إلى المدينة، ودعا علياً ليودعه وقال له: لعن الله ابن مرجانة! أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلةً أبداً إلا أعطيته إياها ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن قضى الله ما رأيت. يا بني كاتبني حاجةً تكون لك. وأوصى بهم هذا الرسول، فخرج بهم فكان يسايرهم ليلاً فيكونون أمامه بحيث لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحى عنهم هو وأصحابه، فكانوا حولهم كهيئة الحرس، وكان يسألهم عن حاجتهم ويلطف بهم حتى دخلوا المدينة. فقالت فاطمة بنت علي لأختها زينب: لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشيء؟ فقالت: والله ما معنا ما نصله به إلا حلينا، فأخرجتا سوارين ودملجين لهما فبعثتا ها إليه واعتذرتا، فرد الجميع وقال: لو كان الذي صنعت للدنيا لكان في هذا ما يرضيني، ولكن والله ما فعلته إلا لله ولقرابتكم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وكان مع الحسين امرأته الرباب بنت امرىء القيس، وهي أم ابنته سكينة، وحملت إلى الشام فيمن حمل من أهله، ثم عادت إلى المدينة، فخطبها الأشراف من قريش، فقالت: ما كنت لأتخذ حمواً بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وبقيت بعده سنة لم يظلها سقف بيت حتى بليت وماتت كمداً، وقيل: إنها أقامت على قبره سنة وعادت إلى المدينة فماتت أسفاً عليه.
فأرسل عبيد الله بن زياد مبشراً إلى المدينة بقتل الحسين إلى عمرو بن سعيد، فلقيه رجل من قريش فقال: ما الخبر؟ فقال: الخبر عند الأمير. فقال القرشي: إنا لله وإنا إليه راجعون، قتل الحسين.
ودخل البشير على عمرو بن سعيد فقال: ما وراءك؟ قال: ما سر الأمر، قتل الحسين بن علي. فقال: ناد بقتله، فنادى، فصاح نساء بني هاشم وخرجت ابنة عقيل بن أبي طالب ومعها نساؤها حاسرةً تلوي ثوبها وهي تقول:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
فلما سمع عمرو أصواتهن ضحك وقال:
عجت نساء بني زيادٍ عجةً ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب
والأرنب وقعة كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب، وهذا البيت لعمرو بن معدي كرب.
ثم قال عمرو: واعية كواعية عثمان؛ ثم صعد المنبر فأعلم الناس قتله.
ولما بلغ عبد الله بن جعفر قتل ابنيه مع الحسين دخل عليه بعض مواليه يعزيه والناس يعزونه، فقال مولاه: هذا ما لقيناه من الحسين! فحذفه ابن جعفر بنعله وقال: يا ابن اللخناء، أللحسين تقول هذا؟ والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لمما يسخي بنفسي عنهما ويهون علي المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له صابرين معه. ثم قال: إن لم تكن آست الحسين يدي فقد آساه ولدي.
ولما وفد أهل الكوفة بالرأس إلى الشام ودخلوا مسجد دمشق أتاهم مروان بن الحكم فسألهم كيف صنعوا؟ فأخبروه، فقام عنهم ثم أتاهم أخوه يحيى ابن الحكم فسألهم فأعادوا عليه الكلام، فقال: حجبتم عن محمد صلى الله عليه وسلم، يوم القيامة، لن أجامعكم على أمر أبداً! ثم انصرف عنهم. فلما دخلوا على يزيد قال يحيى بن أكثم:
لهام بجنب الطف أدنى قرابة ... من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى ... وليس لآل المصطفى اليوم من نسل
فضرب يزيد في صدره وقال: اسكت. قيل: وسمع بعض أهل المدينة ليلة قتل الحسين منادياً ينادي:
أيها القاتلون جهلاً حسيناً ... أبشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عليكم ... من نبيٍ وملأكٍ وقبيل
قد لعنتم على لسان ابن داو ... د وموسى وصاحب الإنجيل
ومكث الناس شهرين أو ثلاثة كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع. قال رأس جالوت ذلك الزمان: ما مررت بكربلاء إلا وأنا أركض دابتي حتى أخلف المكان، لأنا كنا نتحدث أن ولد نبي يقتل بذلك المكان، فكنت أخاف، فلما قتل الحسين أمنت فكنت أسير ولا أركض.
قيل وكان عمر الحسين يوم قتل خمساً وخمسين سنة، وقيل: قتل وهو ابن إحدى وستين، وليس بشيءٍ.
وكان قتله يوم عاشوراء سنة إحدى وستين.
برير بن خضير بضم الباء الموحدة، وفتح الراء المهملة، وسكون الياء المثناة من تحتها، وآخره راء. وخضير بالخاء والضاد المعجمتين. ثبيت بضم الثاء المثلثة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء المثناة من تحتها، وآخره تاء مثناة من فوقها. ومحفر بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الفاء المكسورة، وآخره راء.
وقال... التيمي تيم مرة يرثي الحسين وأهله وكان منقطعاً إلى بني هاشم:
مررت على أبيات آل محمدٍ ... فلم أرها أمثالها يوم حلت
فلا يبعد الله الديار وأهلها ... وإن أصبحت من أهلها قد تخلت
وإن قتيل الطف من آل هاشمٍ ... أذل رقاب المسلمين فذلت
وكانوا رجاءً ثم أضحوا رزية ... لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
وعند غنيٍ قطرةٌ من دمائنا ... سنجزيهم يوماً بها حيث حلت
إذا افتقرت قيسٌ جبرنا فقيرها ... تقتلنا قيسٌ إذا النعل زلت
● [ ذكر أسماء من قتل معه ] ●
قال سليمان: لما قتل الحسين ومن معه حملت رؤوسهم إلى ابن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً، وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأساً، وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن الضبابي، وجاءت بنو تميم بسبعة عشر رأساً، وجاءت بنو أسد بستة أرؤس، وجاءت مذحج بسبعة أرؤس، وجاء سائر الجيش بسبعة أرؤس، فذلك سبعون رأساً.
وقتل الحسين، قتله سنان بن أنس النخعي، لعنه الله، وقتل العباس بن علي، وأمه أم البنين بنت حزام، قتله زيد بن داود الجنبي وحكيم بن الطفيل السنسبي. وقتل جعفر بن علي، وأمه أم البنين أيضاً. وقتل عبد الله بن علي، وأمه أم البنين أيضاً. وقتل عثمان بن علي، وأمه أم البنين أيضاً، رماه خولي بن يزيد بسهم فقتله. وقتل محمد بن علي، وأمه أم ولد، قتله رجل من بني دارم. وقتل أبو بكر بن علي، وأمه ليلى بنت مسعود الدارمية، وقد شك في قتله. وقتل علي بن الحسين بن علي، وأمه ليلى ابنة أبي مرة ابن عروة الثقفي، وأمها ميمونة ابنة أبي سفيان بن حرب، قتله منقذ بن النعمان العبدي، وقتل عبد الله بن الحسين بن علي، وأمه الرباب ابنة امرىء القيس الكلبي، قتله هانىء بن ثبيت الحضرمي. وقتل أبو بكر ابن أخيه الحسن أيضاً، وأمه أم ولد، قتله حرملة بن الكاهن، رماه بسهم. وقتل القاسم بن الحسن أيضاً، قتله سعد بن عمرو بن نفيل الأزدي. وقتل عون بن أبي جعفر بن أبي طالب، وأمه جمانة بنت المسيب بن نجبة الفزاري، قتله عبد الله بن قطبة الطائي. وقتل محمد بن عبد الله بن جعفر، وأمه الخوصاء بنت خصفة بن تيم الله بن ثعلبة، قتله عامر بن نهشل التيمي. وقتل جعفر بن عقيل بن أبي طالب، وأمه أم بنين ابنة الشقر بن الهضاب، قتله بشر بن الخوط الهمداني. وقتل عبد الرحمن بن عقيل، وأمه أم ولد، قتله عثمان بن خالد الجهني. وقتل عبد الله بن عقل، وأمه أم ولد، رماه عمرو بن صبيح الصيداوي بسهم فقتله. وقتل مسلم بن عقيل بالكوفة، وأمه أم ولد. وقتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، وأمه رقية ابنة علي بن أبي طالب، قتله عمرو بن صبيح الصيداوي، ويقال قتله مالك بن أسيد الحضرمي. وقتل محمد بن أبي سعيد بن عقيل، وأمه أم ولد، قتله لقيط بن ياسر الجهني.
واستصغر الحسن بن الحسن بن علي، وأمه خولة بنت منظور بن زبان الفزاري، واستصغر عمور بن الحسن، وأمه أم ولد، فلم يقتلا.
وقتل من الموالي سليمان مولى الحسين، قتله سليمان بن عوف الحضرمي، وقتل منجح مولى الحسين أيضاً، وقتل عبد الله بن بقطر رضيع الحسين.
قال ابن عباس: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، الليلة التي قتل فيها الحسين وبيده قارورة وهو يجمع فيها دماً. فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذه دماء الحسين وأصحابه أرفعها إلى الله تعالى . فأصبح ابن عباس فأعلم الناس بقتل الحسين وقص رؤياه، فوجد قد قتل في ذلك اليوم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، أعطى أم سلمة تراباً من تربة الحسين حمله إليه جبرائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، لأم سلمة: إذا صار هذا التراب دماً فقد قتل الحسين. فحفظت أم سلمة ذلك التراب في قارورة عندها، فلما قتل الحسين صار التراب دماً، فأعلمت الناس بقتله أيضاً. وهذا يستقيم على قول من يقول أم سلمة توفيت بعد الحسين.
ثم إن ابن زياد قال لعمر بن سعد بعد عوده من قتل الحسين: يا عمر إيتني بالكتاب الذي كتبته إليك في قتل الحسين. قال: مضيت لأمرك وضاع الكتاب. قال: لتجيئني به. قال: ضاع. قال: لتجيئني به. قال: ترك والله يقرأ على عجائز قريش بالمدينة اعتذاراً إليهن، أما والله لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقاص لكنت قد أديت حقه. فقال عثمان بن زياد، أخو عبيد الله: صدق والله! لوددت أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأن الحسين لم يقتل! فما أنكر ذلك عبيد الله بن زياد. آخر المقتل.
●[ ذكر مقتل أبي بلال مرداس حدير الحنظلي ]●
قد تقدم ذكر سبب خروجه وتوجيه عبيد الله بن زياد العساكر إليه في ألفي رجل فالتقائهم بآسك وهزيمة عسكر ابن زياد، فلما هزمهم أبو بلال وبلغ ذلك ابن زياد ارسل إليه ثلاثة آلاف عليهم عباد بن الأخضر، والأخضر زوج أمه، نسب إليه، وهو عباد بن علقمة بن عباد التميمي، فاتبعه حتى لحقه بتوج فصف له عباد وحمل عليهم أبو بلال فيمن معه، فثبتوا واشتد القتال حتى دخل وقت العصر، فقال أبو بلال: هذا يوم جمعة وهو يوم عظيم وهذا وقت العصر فدعونا حتى نصلي. فأجابهم ابن الأخضر وتحاجزوا، فعجل ابن الأخضر الصلاة، وقيل قطعها، والخوارج يصلون، فشد عليهم هو وأصحابه وهم ما بين قائم وراكع وساجد لم يتغير منهم أحد من حاله، فقتلوا من آخرهم وأخذ رأس أبي بلال.
ورجع عباد إلى البصرة فرصده بها عبيدة بن هلال ومعه ثلاثة نفر، فأقبل عباد يريد قصر الإمارة وهو مردف ابناً صغيراً له، فقالوا له: قف حتى نستفتيك. فوقف، فقالوا: نحن إخوة أربعة قتل أخونا فما ترى؟ قال: استعدوا الأمير. قالوا: قد استعديناه فلم يعدنا. قال: فاقتلوه قتله الله! فوثبوا عليه وحكموا به فألقى ابنه فنجا وقتل هو، فاجتمع الناس على الخوارج فقتلوا غير عبيدة.
ولما قتل ابن عباد كان ابن زياد بالكوفة ونائبه بالبصرة عبيد الله بن أبي بكرة، فكتب إليه يأمره أن يتبع الخوارج، ففعل ذلك وجعل يأخذهم، فإذا شفع في أحدهم ضمنه إلى أن يقدم ابن زياد، ومن لم يكفله أحد حبسه، وأتي بعروة بن أدية فأطلقه وقال: أنا كفيلك. فلما قدم ابن زياد أخذ من في الحبس من الخوارج فقتلهم وطلب الكفلاء بمن كفلوا به فمن أتى بخارجي أطلقه وقتل الخارجي، ومن لم يأت بالخارجي قتله، ثم طلب عبيد الله بن أبي بكرة بعروة بن أدية، قال: لا أقدر عليه. فقال: إذن أقتلك به، فلم يزل يبحث عنه حتى ظفر به وأحضره عند ابن زياد، فقال له ابن زياد: لأمثلن بك. فقال: اختر لنفسك من القصاص ما شئت به، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه وصلبه، وقيل: إنه قتل سنة ثمان وخمسين.
●[ ذكر ولاية سلم بن زياد على خراسان وسجستان ]●
قيل: في هذه السنة استعمل يزيد سلم بن زياد على خراسان.
وسبب ذلك أن سلماً قدم على يزيد، فقال له يزيد: يا أبا حرب أوليك عمل أخويك عبد الرحمن وعباد. فقال: ما أحب أمير المؤمنين. فولاه خراسان وسجستان، فوجه سلمٌ الحارث بن معاوية الحرثي جد عيسى بن شبيب إلى خراسان، وقدم سلم البصرة فتجهز منها، فوجه أخاه يزيد إلى سجستان، فكتب عبيد الله بن زياد إلى أخيه عباد يخبره بولاية سلم، فقسم عباد ما في بيت المال على عبيدة وفضل فضلٌ فنادى: من أراد سلفاً فليأخذ، فأسلف كل من أتاه، وخرج عباد من سجستان. فلما كان بجيرفت بلغه مكان سلم، وكان بينهما جبل، فعدل عنه، فذهب لعباد تلك الليلة ألف مملوك أقل ما مع أحدهم عشرة آلاف. وسار عباد على فارس فقدم على يزيد فسأله عن المال، فقال: كنت صاحب ثغر فقسمت ما أصبت بين الناس.
ولما سار سلم إلى خراسان كتب معه يزيد إلى أخي عبيد الله بن زياد ينتخب له ستة آلاف فارس، وقيل: ألفي فارس، وكان سلم ينتخب الوجوه، فخر معه عمران بن الفضيل البرجمي والمهلب بن أبي صفرة وعبد الله بن خازم السلمي وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وحنظلة بن عرادة ويحيى بن يعمر العدواني وصلة بن أشيم العدوي وغيرهم، وسار سلم إلى خراسان وعبر النهار غازياً، وكان عمال خراسان قبله يغزون، فإذا دخل الشتاء رجعوا إلى مرو الشاهجان، فإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان بمدينة مما يلي خوارزم فيتعاقدون أن لا يغزو بعضهم بعضاً ويتشاورون في أمورهم، فكان المسلمون يطلبون إلى أمرائهم غزو تلك المدينة فيأبون عليهم، فلما قدم سلم غزا فشتا في بعض مغازيه، فألح عليه المهلب بن أبي صفرة وساله التوجه إلى تلك المدينة، فوجهه في ستة آلاف، وقيل: أربعة آلاف، فحاصرهم، فطلبوا أن يصالحهم على أن يفدوا أنفسهم، فأجابهم إلى ذلك وصالحوه على نيف وعشرين ألف ألف، وكان في صلحهم أن يأخذ منهم عروضاً، فكان يأخذ الرأس والدابة والمتاع بنصف ثمنه، فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف، فحظي بها المهلب عند سلم، وأخذ سلم من ذلك ما أعجبه وبعث به إلى يزيد.
وغزا سلم سمرقن وعبرت معه النهر امرأته أم محمد ابنة عبد الله بن عثمان بن أبي العاص الثقفية، وهي أول امرأة من العرف قطع بها النهر، فولدت له ابناً سماه صغدى، واستعارت امرأته من امرأة صاحب الصغد حليها فلم تعده إليها وذهبت به. ووجه جيشاً إلى خجندة فيهم أعشى همدان فهزموا، فقال أعشى:
ليت خيلي يوم الخجندة لم ته ... زم وغودرت في المكر سليبا
تحضر الطير مصرعي وتروح ... ت إلى الله بالدماء خضيبا
● [ ذكر ولاية يزيد بن زياد ] ●
وطلحة الطلحات سجستان
وطلحة الطلحات سجستان
ولما استعمل يزيد بن معاوية سلم بن زياد على خراسان استعمل أخاه يزيد على سجستان، فغدر أهل كابل فنكثوا وأسروا أبا عبيدة بن زياد، فسار إليهم يزيد بن زياد في جيش فاقتتلوا وانهزم المسلمون وقتل منهم كثير، فممن قتل يزيد بن عبد الله بن أبي مليكة وصلة بن أشيم أبو الصهباء العدوي زوج معاذة العدوية، فلما بلغ الخبر سلم بن زياد سير طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وهو طلحة الطلحات، ففدى أبا عبيدة بن زياد بخمسمائة ألف درهم، وسار طلحة من كابل إلى سجستان والياً عليها، فجبى المال وأعطى زواره، ومات بسجستان واستخلف رجلاً من بني يشكر، فأخرجته المضرية ووقعت العصبية فطمع فيهم رتبيل.
● [ ذكر ولاية الوليد بن عتبة المدينة ] ●
والحجاز وعزل عمرو بن سعيد
والحجاز وعزل عمرو بن سعيد