من طرف توتة الأربعاء 26 ديسمبر - 19:35
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أحوال البلاد وأخبار العباد
تابع ذكر أيام العرب في الجاهلية
ذكر قتل خالد بن جعفر بن كلاب
والحارث بن ظالم المري
وذكر يوم الرحرحان
وسار الحارث حتى قدم على النعمان فدخل عليه وعنده خالد، وهما يأكلان تمراً، فأقبل النعمان يسائله، فحسده خالد، فقال للنعمان: أبيت اللعن، هذا رجل لي عنده يد عظيمة، قتلت زهيراً وهو سيد غطفان فصار هو سيدها. فقال الحارث: سأجزيك على يدك عندي، وجعل الحارث يتناول التمر ليأكله فيقع من بين أصابعه من الغضب، فقال عروة لأخيه خالد: ما أردت بكلامه وقد عرفته فتاكاً، فقال خالد: وما يخوفني منه، فوالله لو رآني نائماً ما أيقظني.
ثم خرج خالد وأخوه إلى قبتهما فشرجاها عليهما، ونام خالد وعروة عند رأسه يحرسه، فلما أظلم الليل انطلق الحارث إلى خالد فقطع شرج القبة ودخلها وقال لعروة: لئن تكلمت قتلتك، ثم أيقظ خالداً، فلما استيقظ قال: أتعرفني، قال: أنت الحارث. قال: خذ جزاء يدك عندي، وضربه بسيفه المعلوب فقتله، ثم خرج من القبة وركب راحلته وسار.
وخرج عروة من القبة يستغيث وأتى باب النعمان فدخل عليه وأخبره الخبر، فبث الرجال في طلب الحارث.
قال الحارث: فلما سرت قليلاً خفت أن أكون لم أقتله فعدت متنكراً واختلطت بالناس ودخلت عليه فضربته بالسيف حتى تيقنت أنه مقتول وعدت فلحقت بقومي؛ فقال عبد الله بن جعدة الكلابي:
يا حـار لـو نـبّـــهـــته لوجدته . لا طائشاً رعـشاً ولا معزالا
شقّت عليه الـجعفرية جيبها . جزعاً وما تبكي هناك ضـلالا
فانـــعـــوا أبـــا بـحر مجرّبٍ . حرّان يحسب في القناة هلال
فلـيقـتـــلـــنّ بـــخـــالـــد سرواتكم . ولـيجعلن لـظالمٍ تـمثالا
تالــلـــه قـــد نـبّهته فـوجـدته . رخـو اليدين مواكلاً عسقالا
فعلوته بـالسيف أضرب رأسه . حتّى أضلّ بسلحه السربالا
فجعل النعمان يطلبه ليقتله بجاره، وهوازن تطلبه لتقتله بسيدها خالد، فلحق بتميم فاستجار بضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم، فأجاره على النعمان وهوازن، فلما علم النعمان ذلك جهز جيشاً إلى بني دارم عليهم ابن الخمس التغلبي، وكان يطلب الحارث بدم أبيه لأنه كان قتله.
ثم إن الأحوص بن جعفر أخا خالد جمع بني عامر وسار بهم، فاجتمعوا هم وعسكر النعمان على بني دارم وساروا، فلما صاروا بأدنى مياه بني دارم رأوا امرأةً تجني الكمأة ومعها جمل لها، فأخذها رجلٌ من غني وتركها عنده. فلما كان الليل نام فقامت إلى جملها فركبته وسارت حتى صبحت بني دارم وقصدت سيدهم زرارة بن عدس فأخبرته الخبر وقالت: أخذني أمس قوم لا يريدون غيرك ولا أعرفهم. قال: فصفيهم لي. قالت: رأيت رجلاً قد سقط حاجباه فهو يرفعهما بخرقة، صغير العينين، وعن أمره يصدرون. قال: ذاك الأحوص وهو سيد القوم. قالت: ورأيت رجلاً قليل المنطق إذا تكلم اجتمع القوم كما تجتمع الإبل لفحلها، أحسن الناس وجهاً، ومعه ابنان له يلازمانه. قال: ذلك مالك بن جعفر وابناه عامر وطفيل. قالت: ورأيت رجلاً جسيماً كأن لحيته محمرةٌ معصفرةٌ. قال: ذاك عوف بن الأحوص. قالت: ورأيت رجلاً هلقاماً جسيماً. قال: ذاك ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب. قالت: ورأيت رجلاً أسود أخنس قصيراً إذا تكلم عذم القوم عذم المخوس. قال: ذاك ربيعة بن قرط بن عبد الله بن أبي بكر. قالت: ورأيت رجلاً أقرن الحاجبين، كثير شعر السبلة، يسيل لعابه على لحيته إذا تكلم. قال: ذاك جندح بن البكاء. قالت: ورأيت رجلاً صغير العينين ضيق الجبهة يقود فرساً له معه جفيرٌ لا يفارق يده. قال: ذاك ربيعة بن عقيل بن كعب. قالت: ورأيت رجلاً معه ابنان أصبهان إذا أقبلا رماهما الناس بأبصارهم، فإذا أدبرا كانا كذلك. قال: ذاك الصعق بن عمرو بن خويلد بن نفيل وابناه يزيد وزرعة. قالت: ورأيت رجلاً لا يقول كلمة إلا وهي أحد من شفرة. قال: ذاك عبد الله بن جعدة بن كعب.
وأمرها زرارة فدخلت بيتها وأرسل زرارة إلى الرعاء يأمرهم بإحضار الإبل، ففعلوا. وأمرهم فحملوا الأهل والأثقال وساروا نحو بلاد بغيض، وفرق الرسل في بني مالك بن حنظلة فأتوه، فأخبرهم الخبر وأمرهم، فوجهوا أثقالهم إلى بلاد بغيض، ففعلوا وباتوا معدين.
وأصبح بنو عامر وأخبرهم الغنوي حال الظعينة وهربها فسقط في أيديهم واجتمعوا يديرون الرأي، فقال بعضهم: كأني بالظعينة قد أتت قومها فأخبرتهم الخبر، فحذروا وأرسلوا أهليهم وأموالهم إلى بلاد بغيض وباتوا معدين لكم في السلاح فاركبوا بنا في طلب نعمهم وأموالهم فإنهم لا يشعرون حتى نصيب حاجتنا وننصرف. فركبوا يطلبون ظعن بني دارم، فلما أبطأ القوم عن زرارة قال لقومه: إن القوم قد توجهوا إلى ظعنكم وأموالكم فسيروا إليهم. فساروا مجدين فلحقوهم قبل أن يصلوا إلى الظعن والنعم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتلت بنو مالك بن حنظلة ابن الخمس التغلبي رئيس جيش النعمان، وأسرت بنو عامر معبد بن زرارة، وصبر بنو دارم حتى انتصف النهار، وأقبل قيس بن زهير فيمن معه من ناحية أخرى، فانهزمت بنو عامر وجيش النعمان وعادوا إلى بلادهم ومعبد أسير مع بني عامر، فبقي معهم حتى مات.
وفي تلك الأيام أيضاً مات زرارة بن عدس.
وقيل في استجارة الحارث ببني تميم غير ذلك، وهو أن النعمان طلب شيئاً يغيظ به الحارث بعد قتل خالد وهربه، فقيل له: كان قصد الحيرة ونزل على عياض بن ديهث التميمي وهو صديق له، فبعث إليه النعمان فأخذ إبلاً له، فركب الحارث وأتى الحيرة متخفياً واستنقذ ماله من الرعاء، ورده عليه وطلب شيئاً يغيظ به النعمان، فرأى ابنه غضبان فضرب رأسه بالسيف فقتله، وبلغ النعمان الخبر فبعث في طلبه فلم يدرك، فقال الحارث في ذلك:
أخصيي حمار بات يكدم نجـمةً . أتـؤكـل جـاراتـي وجــارك سالـم
فإن تـك أذواداً أصـبت ونسـوةً . فهذا ابن سلـمى رأسـه مـتـفاقـم
علوت بذي الحيّات مفرق رأسه . ولا يركـب المكروه إلاّ الأكارم
فتكـت بـهـن كـمـا فـتكت بخالدٍ . وكان سلاحي تحتويه الجماجـم
بدأت بـــتـــلـــك وانـــثـنيت بهذه . وثـالثة تـبـيضّ منها المقادم
حسبت أبا قابوس أنـك مخفري . ولّما تـذق ثـكلاً وأنفك راغـم
كذا قال بعضهم، وقيل: إن المقتول كان شرحبيل بن الأسود بن المنذر، وكان الأسود قد ترك ابنه شرحبيل عند سنان بن أبي حارثة المري ترضعه زوجته. فمن هناك كان لسنان مال كثير، وكان ابنه هرم يعطى منه، فجاء الحارث متخفياً فاستعار سرج سنان ولا يعلم سنان، ثم أتى امرأة سنان فقال: يقول بعلك ابعثي بشرحبيل ابن الملك مع الحارث بن ظالم حتى يستأمن به ويتخفر به وهذا سرجه علامة. فزينته ودفعته إليه، فأخذه وقتله وهرب.
فغزا الأسود بني ذبيان وبني أسد بشط أربك فقتل فيهم قتلاً ذريعاً وسبى واستأصل الأموال وأقسم ليقتلن الحارث، فسار الحارث متخفياً إلى الحيرة ليفتك بالأسود، فبينما هو في منزله إذ سمع صارخةً تقول: أنا في جوار الحارث بن ظالم، وعرف حالها، وكان الأسود قد أخذ لها صرمةً من الإبل، فقال لها: انطلقي غداً إلى مكان كذا، وأتاه الحارث. فلما وردت إبل النعمان أخذ مالها فسلمه إليها وفيها ناقة تسمى اللقاع، فقال الحارث في ذلك:
إذا سـمعـت حنّة اللقاع . فادعي أبا ليلى فنعم الداعي
يمشي بعضبٍ صارمٍ قطّاعٍ . يفري به مجامع الصّداع
ثم أقبل يطلب مجيراً فلم يجره أحد من الناس وقالوا: من يجيرك على هوازن والنعمان وقد قتلت ولده، فأتى زرارة بن عدس وضمرة بن ضمرة فأجاراه على جميع الناس.
خبر الحارث وعمرو بن الاطنابة.
ثم إن عمرو بن الإطنابة الخزرجي لما بلغه قتل خالد بن جعفر، وكان صديقاً له، قال: والله لو وجده يقظان ما أقدم عليه، ولوددت أني لقيته. وبلغ الحارث قوله وقال: والله لآتينه في رحله ولا ألقاه إلا ومعه سلاحه، فبلغ ذلك ابن الإطنابة فقال أبياتاً، منها:
أبلغ الحارث بن ظالمٍ المو . عد والـنـاذر الـنّـذور عـليّا
إنّـمـا تـقـتــل الـــنيام ولا تق . تل يقظان ذا سلاح كميّا
فبلغ الحارث شعره فسار إلى المدينة وسأل عن منزل ابن الإطنابة، فلما دنا منه نادى: يا ابن الإطنابة أغثني، فأتاه عمرو فقال: من أنت، قال: رجل من بني فلان خرجت أريد بني فلان فعرض لي قوم قريباً منك فأخذوا ما كان معي فاركب معي حتى نستنقذه. فركب معه ولبس سلاحه ومضى معه، فلما أبعد عن منزله عطف عليه وقال: أنائمٌ أنت أم يقظان، فقال: يقظان. فقال: أنا أبو ليلى وسيفي المعلوب، فألقس ابن الإطنابة سيفه، وقيل: رمحه، وقال: قد أعجلتني فأمهلني حتى آخذ سيفي. فقال: خذه. قال: أخاف أن تعجلني عن أخذه. قال: لك ذمة ظالم لا أعجلك عن أخذه. قال: فوذمة الإطنابة لا آخذه ولا أقاتلك، فانصرف الحارث وهو يقول أبياتاً، منها:
بلغتنا مقالة المرء عمروٍ . فالـتـقـينا وكان ذاك بـديا
فهـمـمـنـا بـقـتـله إذ برزنا . ووجـدناه ذا سـلاح كميّا
غير ما نائمٍ يروّع بـالفت . ك ولكن مـقـلّداً مشـرفـيّا
فمـنـنّـا عـلـيه بـــعــد عـلوّ . بوفـاء وكنت قـدماً وفيّا
ثم إن الحارث لما علم أن النعمان قد جد في طلبه وهوازن لا تقعد عن الطلب بثأر خالد خرج متنكراً إلى الشام واستجار بيزيد بن عمرو، فأكرمه وأجاره. وكان ليزيد ناقة محماة في عنقها مديةٌ وزناد وملح ليمتحن بذلك رعيته، فوحمت زوجة الحارث واشتهت شحمها ولحمها ورفع منه. وفقدت الناقة فطلبت فوجدت عقيرة بالوادي، فأرسل الملك إلى كاهن فسأله عنها، فذكر له أن الحارث نحرها، فأرسل امرأةً بطيب تشتري من لحمها من امرأة الحارث، فأدركها الحارث وقد اشترت اللحم فقتلها ودفنها في البيت. فسأل الملك الكاهن عن المرأة، فقال: قتلها من نحر الناقة، وإذا كرهت أن تفتش بيته فتأمر الرجل بالرحيل، فإذا رحل فتشت بيته. ففعل ذلك، فلما رحل الحارث فتش الكاهن بيته فوجد المرأة، وأحس بيته. ففعل ذلك، فلما رحل الحارث فتش الكاهن بيته فوجد المرأة، وأحس الحارث بالشر فعاد إلى الكاهن فقتله، فأخذ الحارث وأحضر عند الملك، فأمر بقتله، فقال: إنك قد أجرتني فلا تغدر بي. فقال: إن غدرت بك مرة واحدة فقد غدرت بي مراراً. فقتله.
● [ أيّام داحس والغبراء ] ●
وهي بين عبس وذبيان
وكان سبب ذلك أن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي سار إلى المدينة ليتجهز لقتال عامر والأخذ بثأر أبيه، فأتى أحيحة بن الجلاح يشتري منه درعاً موصوفةً. فقال له: لا أبيعها ولولا أن تذمني بنو عامر لوهبتها منك ولكن اشترها بابن لبون. ففعل ذلك وأخذ الدرع، وتسمى ذات الحواشي، ووهبه أحيحة أيضاً أدراعاً، وعاد إلى قومه وقد فرغ من جهازه. فاجتاز بالربيع بن زياد العبسي فدعاه إلى مساعدته على الأخذ بثأره فأجابه إلى ذلك. فلما أراد فراقه نظر الربيع إلى عيبته فقال: ما في حقيبتك، قال: متاع عجيب لو أبصرته لراعك، وأناخ راحلته، فأخرج الدرع من الحقيبة، فأبصرها الربيع فأعجبته ولبسها، فكانت في طوله. فمنعها من قيس ولم يعطه إياها، وترددت الرسل بينهما في ذلك، ولج قيس في طلبها، ولج الربيع في منعها. فلما طالت الأيام على ذلك سير قيس أهله إلى مكة وأقام ينتظر غرة الربيع.
ثم إن الربيع سير إبله وأمواله إلى مرعى كثير الكلإ وأمر أهله فظعنوا، وركب فرسه وسار إلى المنزل، فبلغ الخبر قيساً فسار في أهله وإخوته فعارض ظعائن الربيع وأخذ زمام أمه فاطمة بنت الخرشب وزمام زوجته. فقالت فاطمة أم الربيع: ما تريد يا قيس، قال: أذهب بكن إلى مكة فأبيعكن بها بسبب درعي. قالت: وهيفي ضماني وخل عنا، ففعل. فلما جاءت إلى ابنها قالت له في معنى الدرع، فحلف أنهن لا يرد الدرع، فأرسلت إلى قيس أعلمته بما قال الربيع، فأغار على نعم الربيع فاستاق منها أربعمائة بعير وسار بها إلى مكة فباعها واشترى بها خيلاً، وتبعه الربيع فلم يلحقه، فكان فيما اشترى من الخيل داحس والغبراء.
وقيل: إن داحساً كان من خيل بني يربوع، وإن أباه كان أخذ فرساً لرجل من بني ضبة يقال له انيف بن جبلة، وكان الفرس يسمى السبط، وكانت أم داحش لليربوعي، فطلب اليربوعي من الضبي أن ينزي فرسه على حجره فلم يفعل. فلما كان الليل عمد اليربوعي إلى فرس الضبي فأخذه فأنزاه على فرسه، فاستيقظ الضبي فلم ير فرسه فنادى في قومه، فأجابوه، وقد تعلق باليربوعي، فأخبرهم الخبر، فغضب ضبة من ذلك، فقال لهم: لا تعجلوا، دونكم نطفة فرسكم فخذوها. فقال القوم: قد أنصف. فسطا عليها رجل من القوم فدس يده في رحمها فأخذ ما فيها، فلم تزد الفرس إلا لقاحاً فنتجت مهراً فسمي داحساً بهذا السبب.
فكان عند اليربوعي ابنان له، أغار قيس بن زهير على بني يربوع فنهب وسبى، ورأى الغلامين أحدهما على داحس والآخر على الغبراء فطلبهما فلم يلحقهما، فرجع وفي السبي أم الغلامين وأختان لهما وقد وقع داحس والغبراء في قلبه، وكان ذلك قبل أن يقع بيته وبين الربيع ما وقع. ثم جاء وفد بني يربوع في فداء الأسرى والسبي، فأطلق الجميع إلا أم الغلامين وأختيهما وقال: إن أتاني الغلامان بالمهر والفرس الغبراء وإلا فلا. فامتنع الغلامان من ذلك، فقال شيخ من بني يربوع كان أسيراً عند قيس، وبعث بها إلى الغلامين، وهي:
إنّ مهـراً فـدى الـربـاب وجـمـلاً . وسـعـاداً لخير مهـر أناس
ادفـعـوا داحـسـاً بــهـــنّ سراعـاً . إنّـهـا مـن فـعـالها الأكياس
دونـهــا والـــذي يحـــجّ لـــه النا . س سـبايا يبعـن بالأفـراس
إنّ قيساً يرى الجواد من الخيـ . ل حياةً فـي مـتـلـف الأنـفـاس
يشتري الطّرف بالجراجـرة الـجـ . لّة يعطي عفواً بغـير مكاس
فلما انتهت الأبيات إلى بني يربوع قادوا الفرسين إلى قيس وأخذوا النساء.
وقيل: إن قيساً أنزى داحساً على فرس له فجاءت بمهرة فسماها الغبراء. ثم إن قيساً أقام بمكة فكان أهلها يفاخرونه، وكان فخوراً، فقال لهم: نحوا كعبتكم عنا وحرمكم وهاتوا ما شئتم. فقال ل عبد الله بن جدعان: إذا لم نفاخرك بالبيت المعمور وبالحرم الآمن فيم نفاخرك، فمل قيس مفاخرتهم وعزم على الرحلة عنهم، وسر ذلك قريشاً لأنهم قد كانوا كرهوا مفاخرته، فقال لإخوته: ارحلوا بنا من عندهم أولاً وإلا تفاقم الشر بيننا وبينهم، والحقوا ببني بدر فإنهم أكفاؤنا في الحسب، وبنو عمنا في النسب، وأشراف قومنا في الكرم، ومن لا يستطيع الربيع أن يتناولنا معهم. فلحق قيس وإخوته ببني بدر،
ثم نزل ببني بدر فنزل بحذيفة، فأجاره هو وأخوه حمل بن بدر، وأقام فيهم، وكان معه أفراس له ولإخوته لم يكن في العرب مثلها، وكان حذيفة يغدو ويروح إلى قيس فينظر إلى خيله فيحسده عليها ويكتم ذلك في نفسه، وأقام قيس فيهم زماناً يكرمونه وإخوته، فغضب الربيع ونقم ذلك عليهم وبعث إليهم بهذه الأبيات:
ألا أبـــلغ بني بدرٍ رسولاً . على مـا كـان مـن شـنـإ ووتـر
بأنّـــي لـم أزل لكم صديقاً . أدافـع عــن فـــزارة كـــلّ أمـر
أسـالـم سلمكم وأردّ عنكم . فوارس أهـل نـجـران وحــجر
وكان أبي ابن عـمّكم زياد . صفيّ أبـيكـم بـدر بـن عـمـرو
فألـجـأتـم أخا الغدرات قيساً . فقـد أفـعـمـتم إيغار صـدري
فحسبي من حذيفة ضمّ قيس . وكان البدء من حمل بن بدر
فإمّـا ترجعوا أرجع إليكم . وإن تأبوا فقد أوسـعـت عـذري
فلم يتغيروا عن جوار قيس. فغضب الربيع وغضبت عبس لغضبه، ثم إن حذيفة كره قيساً وأراد إخراجه عنهم فلم يجد حجةً، وعزم قيس على العمرة فقال لأصحابه: إني قد عزمت على العمرة فإياكم أن تلابسوا حذيفة بشيء، واحتملوا كل ما يكون منه حتى أرجع فإني قد عرفت الشر في وجهه وليس يقدر على حاجته منكم إلا أن تراهنون على الخيل. وكان ذا رأي لا يخطئ في ما يريده، وسار إلى مكة. ثم إن فتىً من عبس يقال له ورد ابن مالك أتى حذيفة فجلس إليه، فقال له ورد: لو اتخذت من خيل قيس فحلاً يكون أصلاً لخيلك. فقال حذيفة: خيلي خير من خيل قيس، ولجا في ذلك إلى أن تراهنا على فرسين من خيل قيس وفرسين من خيل حذيفة، والرهن عشرة أذواد.
وسار ورد فقدم على قيس بمكة فأعلمه الحال، فقال له: أراك قد أوقعتني في بني بدر ووقعت معي وحذيفة ظلوم لا تطيب نفسه بحق ونحن لا نقر له بضيمٍ. ورجع قيس من العمرة، فجمع قومه وركب إلى حذيفة وسأله أن يفكر الرهن، فلم يفعل. فسأله جماعة فزارة وعبس فلم يجب إلى ذلك، وقال: إن أقرقيس أن السبق لي وإلا فلا،
وسأل حذيفة إخوته وسادات أصحابه في ترك الرهان ولج فيه، وقال قيس: علام تراهنني، قال: على فرسيك داحس والغبراء وفرسي الخطار والحنفاء، وقيل: كان الرهن على فرسي داحس والغبراء. قال قيس: داحس أسرع. وقال حذيفة: الغبراء أسرع، وقال لقيس: أريد أن أعلمك أن بصري بالخيل أثقب من بصرك؛ والأول أصح. فقال له قيس: نفس في الغاية وارفع في السبق. فقال حذيفة: الغاية من أبلى إلى ذات الإصاد، وهو قدر مائة وعشرين غلوةً، والسبق مائة بعير، وضمروا الخيل. فلما فرغوا قادوا الخيل إلى الغاية وحشدوا ولبسوا السلاح وتركوا السبق على يد عقال ابن مروان بن الحكم القيسي وأعدوا الأمناء على إرسال الخيل.
وأقام حذيفة رجلاً من بني أسد في الطريق وأمره أن يلقى داحساً في وادي ذات الإصاد إن مر به سابقاً فيرمي به إلى أسفل الوادي.
فلما أرسلت الخيل سبقها داحس سبقاً بيناً والناس ينظرون إليه وقيس وحذيفة على رأس الغاية في جميع قومهما. فلما هبط داحس في الوادي عارضه الأسدي فلطم وجهه فألقاه في الماء، فكاد يغرق هو وراكبه ولم يخرج إلا وقد فاتته الخيل. وأما راكب الغبراء فإنه خالف طريق داحس لما رآه قد أبطأ وعاد إلى الطريق واجتمع مع فرسي حذيفة، ثم سقطت الحنفاء وبقي الغبراء والخطار، فكانا إذا أحزنا سبق الخطار وإذا أسهلا سبقت الغبراء. فلما قربا من الناس وهما في وعث من الأرض تقدم الخطار، فقال حذيفة: سبقك يا قيس. فقال: رويدك يعلون الجدد؛ فذهبت مثلاً. فلما استوت بهما الأرض قال حذيفة: خدع والله صاحبنا. فقال قيس: ترك الخداع من أجرى من مائة وعشرين؛ فذهبت مثلاً.
ثم إن الغبراء جاءت سابقة وتبعها الخطار فرس حذيفة، ثم الحنفاء له أيضاً، ثم جاء داحس بعد ذلك والغلام يسير به على رسله، فأخبر الغلام فيساً بما صنع بفرسه، فأنكر حذيفة ذلك وادعى السبق ظالماً، وقال: جاء فرساي متتابعين، ومضى قيس وأصحابه حتى نظروا إلى القوم الذين حبسوا داحساً واختلفوا.
وبلغ الربيع بن زياد خبرهم فسره ذلك وقال لأصحابه: هلك والله قيس، وكأني به إن لم يقتله حذيفة وقد أتاكم يطلب منكم الجوار، أما والله لئن فعل ما لنا من ضمه من بد.
ثم إن الأسدي ندم على حبس داحس فجاء إلى قيس واعترف بما صنع، فسبه حذيفة.
ثم إن بني بدر قصروا بقيس وإخوته وآذوهم بالكلام، فعاتبهم قيس، فلم يزدادوا إلا بغياً عليه وإيذاءً له.
ثم إن قيساً وحذيفة تناكرا في السبق حتى هما بالمؤاخذة، فمنعهما الناس، وظهر لهم بغي حذيفة وظلمه، ولج في طلب السبق، فأرسل ابنه ندبة إلى قيس يطالبه به، فلما أبلغه الرسالة طعنه فقتله وعادت فرسه إلى أبيه ونادى قيس: يا بني عبس الرحيل، فرحلوا كلهم، ولما أتت الفرس حذيفة علم أن ولده قتل، فصاح في الناس وركب في من معه وأتى منازل بني عبس فرآها خاليةً ورأى ابنه قتيلاً، فنزل إليه وقبل بين عينيه ودفنوه.
وكان مالك بن زهير أخو قيس متزوجاً في فزارة وهو نازلٌ فيهم، فأرسل إليه قيس: أني قد قتلت ندبة بن حذيفة ورحلت فالحق بنا وإلا قتلت. فقال: إنما ذنب قيس عيه، ولم يرحل، فأرسل قيس إلى الربيع ابن زياد يطلب منه العود إليه والمقام معه إذ هم عشيرة وأهل، فلم يجبه ولم يمنعه، وكان مفكراً في ذلك.
ثم إن بني بدر قتلوا مالك بن زهير أخا قيس، وكان نازلاً فيهم، فبلغ مقتله بني عبس والربيع بن زياد، فاشتد ذلك عليهم، وأرسل الربيع إلى قيس عيناً يأتيه بخبره، فسمعه يقول:
أينجـو بـنـو بـدرٍ بـمقـتل مالـك . ويخذلنا في النائبات ربيع
وكـان زيادق قـبـله يتّـقى به . من الدهر إن يومٌ ألـمّ فـظـيع
فقل لربيعً يحتذي فعل شـيخه . وما النّاس إلاّ حافظٌ ومضيع
وإلاّ فما لي فـي البلاد إقامةٌ . وأمر بـني بـدرٍ عـليّ جـمـيع
فرجع الرجل إلى الربيع فأخبره، فبكى الربيع على مالك وقال:
منع الرّقاد فما أغمّض ساعةً . جزعاً من الخبر العظيم الساري
أفبعد مقتل مالك بن زهير . يرجو النساء عواقب الأطهار
وهي طويلة.
فسمعها قيس فركب هو وأهله وقصدوا الربيع بن زياد وهو يصلح سلاحه، فنزل إليه قيس وقام الربيع فاتنقا وبكيا وأظهرا الجزع لمصاب مالك، ولقي القوم بعضهم بعضاً فنزلوا. فقال قيس للربيع: إنه لم يهرب منك من لجأ إليه، ولم يستغن عنك من استعان بك، وقد كان لك شر يومي فليكن لي خير يوميك، وإنما أنا بقومي وقومي بك وقد أصاب القوم مالكاً، ولست أهم بسوء لأني إن حاربت بني بدر نصرتهم بنو ذبيان، وإن حاربتني خذلني بنو عبس إلا أن تجمعهم علي، وأنا والقوم في الدماء سواءٌ، قتلت ابنهم وقتلوا أخي، فإن نصرتني طمعت فيهم، وإن خذلتني طمعوا في. فقال الربيع: يا قيس إنه لا ينفعني أن أرى لك من الفضل ما لا أراه لي، ولا ينفعك أن ترى لي ما لا أراه لك، وقد مال علي قتل مالك وأنت ظالم ومظلوم، ظلموك في جوادك وظلمتهم في دمائهم، وقتلوا أخاك بابنهم، فإن يبؤ الدم بالدم فعسى أن تلقح الحرب أقم معك، وأحب الأمرين إلي مسالمتهم ونخلو بحرب هوازن. وبعث قيس إلى أهله وأصحابه، فجاؤوا ونزلوا مع الربيع،
وبلغ حذيفة أن الربيع وقيساً اتفقا، فشق ذلك عليه واستعد للبلاء. وقيل: إن بلاد عبس كانت قد أجدبت فانتجع أهلها بلاد فزارة، وأخذ الربيع جواراً من حذيفة وأقام عندهم. فلما بلغه مقتل مالك قال لحذيفة: لي ذمتي ثلاثة أيام. فقال حذيفة: ذلك لك. فانتقل الربيع من بني فزارة. فبلغ ذلك حمل بن بدر فقال لحذيفة أخيه: بئس الرأي رأيت، قتلت مالكاً وخلّيت سبيل الربيع، والله ليضرمنها عليك ناراً، فركبا في طلب الربيع، ففاتهما، فعلما أنه قد أضمر الشر.
واتفق الربيع وقيس، وجمع حذيفة قومه وتعاقدوا على عبس، وجمع الربيع وقيس قومهما واستعدوا للحرب، فأغارت فزارة على بني عبس فأصابوا نعماً ورجالاً، فحميت عبس واجتمعت للغارة، فنذرت بهم فزارة. فخرجوا إليهم فالتقوا على ماء يقال له العذق، وهي أول وقعة كانت بينهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل عوف بن يزيد، قتله جندب بن خلف العبسي. وانهزمت فزارة وقتلوا قتلاً ذريعاً، وأسر الربيع بن زياد حذيفة ابن بدر، وكان حر بن الحارث العبسي قد نذر إن قدر على حذيفة أن يضربه بالسيف، وله سيف قاطع يسمى الأصرم، فأراد ضربه بالسيف لما أسر وفاء بنذره، فأرسل الربيع إلى امرأته فغيبت سيفه ونهوه عن قتله وحذروه عاقبة ذلك، فأبى إلا ضربه، فوضعوا عليه الرجال، فضربه، فلم يصنع السيف شيئاً وبقي حذيفة أسيراً.
فاجتمعت غطفان وسعوا في الصلح، فاصطلحوا على أن يهدروا بدر بن حذيفة بدم مالك بن زهير، ويعقلوا عوف بن بدر، ويعطوا حذيفة عن ضربته التي ضربه حر مائتين من الإبل، وأن يجعلوها عشاراً كلها، وأربعة أعبدٍ، وأهدر حذيفة دماء من قتل من فزارة في الوقعة وأطلق من الأسر.
فلما رجع إلى قومه ندم على ذلك وساءت مقالته في بني عبس، وركب قيس بن زهير وعمارة بن زياد فمضيا إلى حذيفة وتحدثا معه. فأجابهما إلى الاتفاق وأن يرد عليهما الإبل التي أخذ منهما، وكانت توالدت عنده. فبيناهم في ذلك إذ جاءهم سنان بن أبي حراثة المري فقبح رأي حذيفة في الصلح وقال: إن كنت لا بد فاعلاً فأعطهم إبلاً عجافاً مكان إبلهم واحبس أولادها. فوافق ذلك رأي حذيفة، فأبى قيس وعمارة ذلك.
وقيل: إن الابل التي طلبوها منه هي إبل كان قد أخذها سبقاً من قيس. وقيل أيضاً: إن مالك بن زهير قتل بعد هذه الوقعة المذكورة؛ قال حميد ابن بدر في ذلك:
قتلنا بعوفٍ مالكاً وهو ثأرنا . ومن يبتدع شيئاً سوى الحقّ يظلم
وجعل سنان يحث حذيفة على الحرب، فتيسروا لها.
ثم إن الأنصار بلغهم ما عزموا عليه، فاتفق جماعةٌ من رؤسائهم، وهم: عمرو بن الإطنابة، ومالك بن عجلان، وأحيحة بن الجلام، وقيس ابن الخطيم، وغيرهم، وساروا ليصلحوا بينهم، فوصلوا إليهم وترددوا في الاتفاق، فلم يجب حذيفة إلى ذلك وظهر لهم بغيه، فحذروه عاقبته وعادوا عنه.
وأغار حذيفة على عبس، وأغارت عبس على فزارة، وتفاقم الشر، وأرسل حذيفة أخاه حملاً فأغار وأسر ريان بن الأسلع بن سفيان وشده وثاقاً وحمله إلى حذيفة فأطلقه ليرهنه ابنيه وجبير ابن أخيه عمرو بن الأسلع، ففعل ريان ذلك، ثم سار قيس إلى فزارة فلقي منهم جمعاً فيهم مالك بن بدر، فقتله قيس وانهزمت فزارة، فأخذ حينئذ حذيفة ولدي ريان فقتلهما وهما يستغيثان: يا أبتاه، حتى ماتا، وأما ابن أخيه فمنعه أخواله.
ولما قتل مالك والغلامان اشتدت الحرب بين الفريقين وأكثرها في فزارة ومن معها. ففي بعض الأيام التقوا واقتتلوا قتالاً شديداً ودامت الحرب بينهم إلى آخر النهار، وأبصر ريان بن الأسلع زيد بن حذيفة فحمل عليه فقتله، وانهزمت فزارة وذبيان، وأدرك الحارث بن بدر فقتل، ورجعت عبس سالمةً لم يصب منها أحدٌ. فلما قتل زيد والحارث جمع حذيفة جميع بني ذبيان وبعث إلى أشجع وأسد بن خزيمة فجمعهم، فبلغ ذلك بني عبس فضموا أطرافهم، وأشار قيس بن زهير بالسبق إلى ماء العقيقة، ففعلوا ذلك، وسار حذيفة في جموعه إلى عبس، ومشى السفراء بينهم، فحلف حذيفة: أنه لا يصلح حتى يشرب من ماء العقيقة. فأرسل إليه قيس منه في سقاء وقال: لا أترك حذيفة يخدعني. واصطلحوا على أن تعطي بنو عبس حذيفة ديات من قتل له، ووضعوا الرهائن عدنه إلى أن يجمعوا الديات، وهي عشر، وكانت الرهائن ابناً لقيس بن زهير، وابناً للربيع بن زياد، فوضعوا أحدهما عند قطبة بن سنان والآخر عند رجل من بكر بن وائل أعمى. فعير بعض الناس حذيفة بقبول الدية، فحضر هو وأخوه حمل عند قطبة بن سنان والبكري وقالا: ادفعا إلينا الغلامين لنكسوهما ونسرحهما إلى أهلهما. فأما قطبة فدفع إليهما الغلام الذي عنده، وهو ابن قيس، وأما البكري فامتنع من تسليم من عنده، فلما أخذا ابن قيس عادا فلقيا في الطريق ابناً لعمارة بن زياد العبسي وابن عم له، فأخذاهما وقتلاهما مع ابن قيس.
فلما بلغ ذلك بني عبس أخذوا ما كانوا جمعوا من الديات، فحملوا عليه الرجال واشتروا السلاح، ثم خرج قيس في جماعة فلقوا ابناً لحذيفة ومعه فوارس من ذبيان فقتلوهم. فجمع حذيفة وسار إلى عبس، وهم على ماء يقال له عراعر، فاقتتلوا،فكان الظفر لفزارة ورجعت سالمةً. وجد حذيفة في الحرب وكرهها أخوه حمل وندم على ما كان، وقال لأخيه في الصلح فلم يجب إلى ذلك، وجمع الجموع من أسد وذبيان وسائر بطون غطفان وسار نحو بني عبس، فاجتمعت عبس وتشاوروا في أمرهم، فقال لهم قيس بن زهير: إنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به وليس لبني بدر إلا دماؤكم والزيادة عليكم، وأما من سواهم فلا يريدون غير الأموال والغنيمة، والرأي أننا نترك الأموال بمكانها ونترك معها فارسين على داحس وعلى فرس آخر جوادٍ ونرحل نحن ونكون على مرحلة من الماء، فإذا جاء القوم إلى الأموال سار إلينا الفارسان فأعلمانا وصولهم، فإن القوم يشتغلون بالنهب وحيازة الأموال، وإن نهاهم ذوو الرأي عن ذلك فإن العامة تخالفهم وتنتقض تعبيتهم ويشتغل كل إنسان بحفظ ما غنم ويعلقون أسلحتهم على ظهور الإبل ويأمنون. فنعود نحن إليهم عند وصول الفارسين فندركهم وهم على حال تفرق وتشتتٍ فلا يكون لأحدهم همة إلا نفسه.
ففعلوا ذلك وجاء حذيفة ومن معه فاشتغلوا بالنهب، فنهاهم حذيفة وغيرهم فلم يقبلوا منه، وكانوا على الحال التي وصف قيس. وعادت بنو عبس وقد تفرقت أسد وغيرهم، وبقي بنو فزارة في آخر الناس، فحملوا عليهم من جوانبهم فقتل مالك بن سبيع التغلبي سيد غطفان، وانهزمت فزارة وحذيفة معهم وانفرد في خمسة فوارس وجد في الهرب. وبلغ خبره بني عبس، فتبعه قيس بن زهير والربيع بن زياد وقرواش بن عمرو بن الأسلع وريان بن الأسلع الذي قتل حذيفة ابنيه، وتبعوا أثرهم في الليل، وقال قيس: كأني بالقوم وقد وردوا جفر الهباءة ونزلوا فيه، فساروا ليلتهم كلها حتى أدركوهم مع طلوع الشمس في جفر الهباءة في الماء، وقد أرسلوا خيولهم فأخذوا بجمعها، فمحال قيس وأصحابه بينهم وبينها، وكان مع حذيفة في الجفر أخوه حمل بن بدر وابنه حصن بن حذيفة وغيرهم. فهجم عليهم قيس والربيع ومن معهما وهم ينادون: لبيكم لبيكم، يعني أنهم يجيبون نداء الصبيان لما قتلوا ينادون: يا أبتاه، فقال لهم قيس: يا بني بكر كيف رأيتم عاقبة البغي، فناشدوهم الله الرحم، فلم يقبلوا منهم. ودار قرواش ابن عمرو حتى وقف خلف ظهر حذيفة فضربه فدق صلبه، وكان قرواش قد رباه حذيفة حتى كبر عنده في بيته، وقتلوا حملاً أخاه وقطعوا رأسيهما واستبقوا حصن بن حذيفة لصباه. وكان عدد من، قتل في هذه الوقعة من فزارة وأسد وغطفان ما يزيد على أربعمائة قتيل، وقتل من عبس ما يزيد على عشرين قتيلاً، وكانت فزارة تسمي هذه الوقعة البوار؛ وقال قيس ابن زهير:
أقام على الهباءة خير ميتٍ . وأكرمه حذيفة لا يريم
لقد فجعت به قيسٌ جميعـً . موالي القوم والقوم الصميم
وهي طويلة؛
وأكثروا القول في يوم الهباءة.
ثم إن عبساً ندمت على ما فعلت يوم الهباءة، ولام بعضهم بعضاً، فاجتمعت فزارة إلى سنان بن أبي حارثة المري وشكوا إليه ما نزل بهم، فأعظمه وذم عبساً وعزم على أن يجمع العرب ويأخذ بثأر بني بدر وفزارة، وبث رسهل. فاجتمع من العرب خلقٌ كثير لا يحصون، ونهى أصحابه عن التعرض إلى الموال والغنيمة وأمرهم بالصبر، وساروا إلى بني عبس. فلما بلغهم مسيرهم إليهم قال قيس: الرأي أننا لا نلقاهم، فإننا قد وترناهم فهم يطالبوننا بالذخول والطوائل، وقد رأوا ما نالهم بالأمس باشتغالهم بالنهب والمال فهم لا يتعرضون إليه الآن، والذي ينبغي أن نفعله أننا نرسل الظعائن والأموال إلى بني عامر، فإن الدم لنا قبلهم فهم لا يتعرضون لكم ويبقى أولو القوة والجلد على ظهور الخيل ونماطلهم القتال، فإن أبوا إلا القتال كنا قد أحرزنا أهلينا وأموالنا وقاتلناهم وصبرنا لهم، فإن ظفرنا فهو الذي نريد، وإن كانت الأخرى كنا قد احترزنا ولحقنا بأموالنا ونحن على حامية.
ففعلوا ذلك.
● [ يوم ذات الجراجر ] ●
وسارت ذبيان ومن معها فلحقوا بني عبس على ذات الجراجر فاقتتلوا قتالاً شديداً يومهم ذلك وافترقوا. فلما كان الغد عادوا إلى اللقاء فاقتتلوا أشد من اليوم الأول، وظهرت في هذه الأيام شجاعة عنترة ابن شداد. فلما رأى الناس شدة القتال وكثرة القتلى لاموا سنان بن أبي حارثة على منعه حذيفة عن الصلح وتطيروا منه وأشاروا عليه بحقن الدماء ومراجعة السلم، فلم يفعل وأراد مراجعة الحرب في اليوم الثالث. فلما رأى فتور أصحابه وركونهم إلى السلم رحل عائداً. فلما عاد عنهم رحل قيس وبنو عبس إلى بني شيبان بن بكر وجاوروهم وبقوا معهم مدةً، فرأى قيس من غلمان شيبان ما يكرهه من التعرض لأخذ أموالهم فرحلوا عنهم، فتبعهم جمع من شيبان، فلقيتهم بنو عبس واقتتلوا، فانهزمت شيبان وسارت عبس إلى هجر ليحالفوا ملكهم، وهو معاوية بن الحارث الكندي، فعزم معاوية على الغارة عليهم ليلاً، فبلغهم الخبر فساروا عنه مجدين، وسار معاوية مجداً في اثرهم، فتاه بهم الدليل على عمد لئلا يدركوا عبساً إلا وهم قد لحقهم ودوابهم النصب، فأدركوهم بالفروق فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم معاوية وأهل هجر وتبعتهم عبس فأخذت من أموالهم وقتلوا منهم ما أرادوا ورجعوا سائرين فنزلوا بماء يقال له عراعر عليه حي من كلب، فركبوا ليقاتلوا بني عبس، فبرز الربيع وطلب رئيسهم، فبرز إليه، واسمه مسعود بن مصاد الكلبي. فاقتتلا حتى سقطا إلى الأرض، وأراد مسعود قتل الربيع، فانحسرت البيضة عن رقبته، فرماه رجل من بني عبس بسهم فقتله، فثار به الربيع فقطع رأسه، وحملت عبس على كلب والرأس على رمح فانهزمت كلب وغنمت عبس أموالهم وذراريهم، فساروا إلى اليمامة فحالفوا أهلها من بني حنيفة وأقاموا ثلاث سنين، فلم يحسنوا جوارهم وضيقوا عليهم فساروا عنهم، وقد تفرق كثير منهم وقتل منهم وهلكت دوابهم ووترهم العرب فراسلتهم بنو ضبة وعرضوا عليهم المقام عندهم ليستعينوا بهم على حرب تميم، ففعلوا وجاوروهم.
فلما انقضى الأمر بين ضبة وتميم تغيرت ضبة لعبسٍ وأرادوا اقتطاعهم، فحاربتهم عبس فظفرت وغنمت من أموال ضبة وسارت إلى بني عامر وحالفوا الأحوص بن جعفر بن كلاب، فسر بهم ليقوى بهم على حرب بني تميم لأنه كان بلغه أن لقيط بن زرارة يريد غزو بني عامر والأخذ بثأر أخيه معبد، فأقامت عبس عند بني عامر، فقصدتهم تميم، وكانت وقعة شعب جبلة، وسنذكره إن شاء الله.
ثم إن ذبيان غزوا بني عامر بن صعصعة وفيهم بنو عبس فاقتتلوا، فهزمت عامر وأسر قرواش بن هني العبسي ولم يعرف. فلما قدموا به الحي عرفته امرأةٌ عنهم، فلما عرفوه سلموه إلى حصن بن حذيفة فقتله. ثم رحلت عبس عن عامر ونزلت بتيم الرباب، فبغت تيم عليهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً وتكاثرت عليهم تيم فقتلوا من عبس مقتلة عظيمة. ورحلت عبس وقد ملوا الحرب وقلت الرجال والأموال وهلكت المواشي، فقال لهم قيس: ما ترون، قالوا: نرجع إلى أخواننا من ذبيان فالموت معهم خير من البقاء مع غيرهم. فساروا حتى قدموا على الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، وقيل: على هرم بن سنان بن أبي حارثة ليلاً، وكان عند حصن ابن حذيفة بن بدر. فلما عاد ورآهم رحب بهم وقال: من القوم، قالوا: إخوانك بنو عبس، وذكروا حاجتهم. فقال: نعم وكرامة أعلم حصن ابن حذيفة. فعاد إليه وقال: طرقت في حاجة، قال: أعطيتها، قال بنو عبس: وجدت وفودهم في منزلي. قال حصن: صالحوا قومكم، أما أنا فلا أدي ولا أتدي، قد قتل آبائي وعمومتي عشرين من عبس؛ فعاد إلى عبس وأخبرهم بقول حصن وأخذهم إليه، فلما رآهم قال قيس والربيع ابن زياد: نحن ركبان الموت. قال: بل ركبان السلم، إن تكونوا اختللتم إلى قومكم فقد اختل قومكم إليكم. ثم خرج معهم حتى أتوا سناناً فقال له: قم بأمر عشيرتك وأصلح بينهم فإني سأعينك. ففعل ذلك وتم الصلح بينهم وعادت عبس.
وقيل: إن قيس بن زهير لم يسر مع عبس إلى ذبيان وقال: لا تراني غطفانيةٌ أبداً وقد قتلت أخاها أو زوجها أو ولدها أو ابن عمها، ولكني سأتوب إلى ربي، فتنصر وساح في الأرض حتى انتهى إلى عمان فترهب بها زماناً، فلقيه حوج بن مالك العبدي فعرفه فقتله وقال: لا رحمني الله إن رحمتك.
وقيل: إن قيساً تزوج في النمير بن قاسط لما عادت عبس إلى ذبيان، وولد له ولد اسمه فضالة، فقدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، وعقد له على من معه من قومه، وكانوا تسعة وهو عاشرهم.
انقضى حرب داحس والغبراء، والحمد لله.
● [ يوم شعب جبلة ] ●
كان لقيط بن زرارة قد عزم على غزو بني عامر بن صعصعة للأخذ بثأر أخيه معبد بن زرارة، وقد ذكرنا موته عندهم أسيراً. فبينما هو يتجهز أتاه الخبر يحلف بني عبس وبني عامر، فلم يطمع في القوم وأرسل إلى كل من كان بيته وبين عبس ذحل يسأله الحلف والتظافر على غزو عبس وعامر. فاجتمعت إليه أسد وغطفان وعمرو بن الجون ومعاوية بن الجون واستوثقوا واستكثروا وساروا، فعقد معاوية بن الجون الألوية، فكان بنو أسد وبنو فزارة بلواء مع معاوية بن الجون، وعقد لعمرو بن تميم مع حاجب بن زرارة، وعقد للرباب مع حسان بن همام، وعقد لجماعة من بطون تميم مع عمرو ابن عدس، وعقد لحنظلة بأسرها ع لقيط بن زرارة، وكان مع لقيط ابنته دخنتوس، وكان يغزو بها معه ويرجع إلى رأيها.
وساروا في جمع عظيم لا يشكون في قتل عبس وعامر وإدراك ثأرهم، فلقي لقيط في طريقه كرب بن صفوان بن الحباب السعدي، وكان شريفاً، فقال: ما منعك أن تسير معنا في غزاتنا، قال: أنا مشغول في طلب إبل لي. قال: لا بل تريد أن تنذر بنا القوم، ولا أتركك حتى تحلف أنك لا تخبرهم، فحلف له، ثم سار عنه وهو مغضب. فلما دنا من عامر أخذ خرقة فصر فيها حنظلةً وشوكاً وتراباً وخرقتين يمانيتين وخرقة حمراء وعشرة أحجار سود ثم رمى بها حيث يسقون ولم يتكلم. فأخذها معاوية بن قشير، فأتى بها الأحوص بن جعفر وأخبره أن رجلاً ألقاها وهم يسقون. فقال الأحوص لقيس بن زهير العبسي: ما ترى في هذا الأمر، قال: هذا من صنع الله لنا، هذا رجل قد أخذ عليه عهدٌ على أن لا يكلمكم فأخبركم أن أعداءكم قد غزوكم عدد التراب، وأن شوكتهم شديدة، وأما الحنظلة فهي رؤساء القوم، وأما الخرقتان اليمانيتان فهما حيان من اليمن معهم، وأما الخرقة الحمراء فهي حاجب بن زرارة، وأما الأحجار فهي عشر ليال يأتيكم القوم إليها، قد أنذرتكم فكونوا أحراراً فاصبروا كما يصبر الأحرار الكرام.
قال الأحوص: فإنا فاعلون وآخذون برأيك، فإنه لم تنزل بك شدة إلا رأيت المخرج منها. قال: فإذا قد رجعتم إلى رأيي فأدخلوا نعمكم شعب جبلة ثم اظمئوها هذه الأيام ولا توردوها الماء، فإذا جاء القوم أخرجوا عليهم الإبل وانخسوها بالسيوف والرماح فتخرج مذاعير عطاشاً فتشغلهم وتفرق جمعهم واخرجوا أنتم في آثارها واشفوا نفوسكم. ففعلوا ما أشار به.
وعاد كرب بن صفوان فلقي لقيطاً فقال له: أنذرت القوم، فأعاد الحلف له أنه لم يكلم أحداً منهم، فخلى عنه. فقالت دخنتوس ابنة لقيط لأبيها: ردني إلى أهلي ولا تعرضني لعبس وعامر فقد أنذرهم لا محالة. فاستحمقها وساءه كلامها وردها. وسار حتى نزل على فم الشعب بعساكر جرارة كثيرة الصواهل وليس لهم هم إلا الماء، فقصدوه. فقال لهم قيس: أخرجوا عليهم الآن الإبل، ففعلوا ذلك، فخرجت الإبل مذاعير عطاشاً وهم في أعراضها وأدبارها، فخبطت تميماً ومن معها وقطعتهم، وكانوا في الشعب، وأبرزتهم إلى الصحراء على غير تعبية. وشغلوا عن الاجتماع إلى ألويتهم، وحملت عيهم عبس وعامر فاقتتلوا قتالاً شديداً وكثرت القتلى في تميم، وكان أول من قتل من رؤسائهم عمرو بن الجون، وأسر معاوية بن الجون وعمرو بن عمرو بن عدس زوج دخنتوس بنت لقيط، وأسر حاجب ابن زرارة، وانحاز لقيط بن زرارة، فدعا قومه وقد تفرقوا عنه، فاجتمع إليه نفر يسير، فتحرز برايته فوق جرف ثم حمل فقتل فيهم ورجع وصاح: أنا لقيط، وحمل ثانيةً فقتل وجرح وعاد، فكثر جمعه، فانحط الجرف بفرسه، وحمل عليه عنترة فطعنه طعنة قصم بها صلبه، وضربه قيس بالسيف فألقاه متشحطاً في دمه، فذكر ابنته دخنتوس فقال:
يا ليت شعري عنك دخنتوس . إذا أتاها الخبر المرموس
أتحلق القرون أم تميس . لا بل تمس إنّها عروس
ثم مات وتمت الهزيمة على تميم وغطفان، ثم فدوا حاجباً بخمسمائة من الإبل، وفدوا عمرو بن عمرو بمائتين من الإبل، وعاد من سلم إلى أهله. وقالت دختنوس ترثي أباها قصائد، منها:
عثر الأغرّ بخير خن . دف كهلـهـا وشـبـابـهـا
وأضرّها لعدوّها . وأفكّها لرقابها
وقريعها ونجيبها . في المطبقات ونابها
ورئيسها عند الملو . ك وزين يوم خطابها
وذكر محمد بن إسحاق في يوم جبلة غير ما ذكرنا، قال: كان سببه أن بني خندف كان لهم على قيس أكلٌ تأكله القعدد من خندف، فكان ينتقل فيهم حتى انتهى إلى تميم، ثم من تميم إلى بني عمرو بن تميم، وهم أقل بطن منهم وأذله، فأبت قيس أن تعطي الأكل وامتنعت منه، فجمعت تميم وحالفت غيرها من العرب وساروا إلى قيس، فذكر القصة نحو ما تقدم وخالف في البعض فلا حاجة إلى ذكره.
وفي هذا اليوم ولد عامر بن الطفيل العامري.
وقد قال بعض العلماء إن المجوسية كان يدين بها بعض العرب بالبحرين، وكان زرارة عدس وابناه حاجب ولقيط والأقرع بن حابس وغيرهم مجوساً، وإن لقيطاً تزوج ابنته دختنوس وسماها بهذا الاسم الفارسي، وإنه قتل وهي تحته، فقال في ذلك: يا ليت شعري عنك دختنوس الأبيات. والأول أصح، والله أعلم.
● [ يوم ذات نكيف ] ●
كان بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة مبغضين لقريش مضطغنين عليهم ما كان من قصي حين أخرجهم من مكة مع من أخرج من خزاعة حين قسمها رباعاً وخططاً بين قريش. فلما كانوا على عهد عبد المطلب هموا بإخراج قريش من الحرم وأن يقاتلوهم حتى يغلبوهم عليه، وعدت بنو بكر على نعمٍ لبني الهون بن خزيمة فاطردوها، ثم جمعوا جموعهم وجمعت قريش جموعهم واستعدت، وعقد عبد المطلب الحلف بين قريش والأحابيش، وهم بنو الحارث بن عبد مناة وبنو الهون بن خزيمة بن مدركة وبنو المصطلق من خزاعة، فلقوا بني بكر ومن انضم إليهم، وعلى الناس عبد المطلب، فاقتتلوا بذات نكيف، فانهزم بنو بكر وقتلوا قتلاً ذريعاً، فلم يعودوا لحرب قريش،
فقتل يومئذ عبد بن السفاح القاري من القارة قتادة بن قيس أخا بلعاء ابن قيس، واسم بلعاء مساحق. ويومئذ قيل: قد أنصف القارة من راماها؛ والقارة من ولد الهون بن خزيمة، وهو من ولد عضل بن الدّيش؛ قال رجل منهم:
دعونا قارةً لا تنفرونا . فنجفل مثل إجفال الظليم
وقيل: بهذا البيت سموا قارةً، وكان يقال للقارة رماة الحدق.
● [ ذكر الفجار الأول ] ●
أما الفجار الأول : فلم يكن فيه كثير أمرٍ ليذكر، وإنما ذكرناه لئلا يرى ذكر الفجار الثاني وما كان فيه من الأمور العظيمة فيظن أن الأول مثله وقد أهملناه، فلهذا ذكرناه.
قال ابن إسحاق: كان الفجار الأول بين قريش ومن معها من كنانة كلها وبين قيس عيلان. وسببه أن رجلاً من كنانة كان عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، فأعدم الكناني، فوافى النصري سوق عكاظ بقرد وقال: من يبيعني مثل هذا بما لي على فلان الكناني ؟ فعل ذلك تعييراً للكناني وقومه؛ فمر به رجلٌ من كنانة فضرب القرد بالسيف فقتله أنفةً مما قال النصري، فصرخ النصري في قيس، وصرخ الكناني في كنانة، فاجتمع الناس وتحاوروا حتى كاد يكون بينهم القتال ثم اصطلحوا.
وقيل: كان سببه أن فتيةً من قريش قعدوا إلى امرأة من بني عامر وهي وضيئة عيها برقع، فقالوا لها: اسفري لننظر إلى وجهك: فلم تفعل. فقال غلام منهم فشك ذيك درعها إلى ظهرها ولم تشعر، فلما قامت انكشفت دبرها، فضحكوا وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهك فقد نظرنا إلى دبرك. فصاحت المرأة: يا بني عامر فضحت ! فأتاها الناس واشتجروا حتى كاد يكون قتال، ثم رأوا أن الأمر يسير فاصطلحوا. وقيل: بل قعد رجل من بني غفار يقال له أبو معشر بن مكرز، وكان عازماً منيعاً في نفسه، وكان بسوق عكاظ، فمد رجله ثم قال:
نحن بنو مدركة بن خندف ... من يطعنوا في عينه لا يطرف
ومن يكونوا قومه يغطرف ... كأنّه لجّة بحر مسرف
أنا والله أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف. فقام رجل من قيس يقال له أحمر بن مازن فضربها بالسف فخرشها خرشاً غير كثير، فاختصم الناس ثم اصطلحوا. بنو نصر بالنون.